جدلية الدين والحياة / د . هاشم غرايبة

جدلية الدين والحياة
ينظر الناس الى المتدين على افتراض أنه شخص زاهد في الحياة ، كل همه تجاوز هذه الدنيا حاملا لأقل قدر ممكن من الخطايا وأقصى حمولة من أعمال البر والطاعات ، بأمل أن يفوز بكل الخيرات والمغانم المدخرة للصالحين في الآخرة التي هي الحياة السرمدية .
وقد تولد هذا الإعتقاد من إسراف الوعاظ في صرف اهتمام الناس عن الإنكباب على متع الحياة ، بتذكيرهم أنها مجرد ممر وأن الآخرة هي المقر ، وما خلقهم الله إلا ليبتليهم بمغريات هذه الحياة فمن انصرف عنها فقد نجح في الإمتحان وفاز بالآخرة .
الحقيقة أن الأمر ليس بهذه الصورة التعجيزية ، فقد خلق الله هذه الحياة الدنيا بزينتها ومباهجها ليستمتع بها الإنسان ويأخذ منها باعتدال وتوازن ، لكن قدرات البشر على الإلتزام بهذا متباينة ، لأن هذه المقدرة محكومة بمدى تحقيق معادلة النفس مقابل العقل ، أي الرغبة مقابل الضبط ، وهذه لا تتحقق إلا بالحكمة وقوة الإرادة واتساع الفهم ، والتي جاءت تشريعات الدين لكي تحدد معالم هذه المعادلة .. أي الحدود الدقيقة بين الإفراط والتفريط .
إذاً فالمسألة منوطة بخيارات الفرد ، فهي حرية يضبطها العقل وينظمها حسن التصرف ، الرادع والمحفز فيها ليس قانونا بشريا يمكن التحايل عليه ، بل هو ضابط داخلي يتأتى من قناعة بأن كل ما يفعله المرء سرا أو علنا يعلمه الله ، وسوف يحاسبه عليه فيعاقب أو يثاب .
وعليه فالقضية ليست ترهيبا من الأخذ بما في هذه الدنيا ، ولا هو امتحان صعب لا يتجاوزه إلا الزاهدون في تلك الخيرات ، بل هو حرية متاحة حدودها عدم تجاوز حريات الآخرين أو حقوقهم .
نصل هنا الى جوهر الموضوع : هل أراد الله منا أن نزهد في هذه الدنيا ؟ ، وهل أن مدى صلاح المرء وفلاحه هو بمقدار تجاهله لمتعها وزينتها ومباهجها ؟ ، الإجابة كلا قطعا ، فقد قال عز وجل مستنكرا أفعال أولئك الذين يحثون الناس على الإعراض عنها ابتغاء الآخرة : ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ” ( الأعراف: ( 32 ، وقبل أن يجيب أحد على هذا التساؤل ، يكمل رب العزة فيأمر رسوله الكريم بتوضيح هذا الأمر : ” قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” ، وعليه فإن علة وجودها وإتاحتها لكل البشر ، سواء من كان منهم معترفا بفضله تعالى ( المؤمن ) ، أو جاحدا منكرا لهذه الأنعم ( الكافر ) ، ولذلك حتى يعرف المرء كل هذه الملذات ومواصفاتها وفضائلها ، والتي وعد بها المتقون حصرا من دون الكافرين الذين ستكون الحسرة والندامة لديهم أبدية ، وهنا تتحقق صدقية المكافأة الموعودة للمتقين فقد تذوقوها في الدنيا القصيرة الأمد فعرفوا لذتها فكان تشوقهم لدوامها حافزا لديهم في الدنيا لعمل الخير والصالحات من الأعمال ، فيما نالها العصاة والفجرة في الدنيا أيضا ، لكنهم كذبوا بيوم الجزاء فنالوا الحرمان منها في الحياة الأخرة جزاء وفاقا لما اقترفوه .
هنا يلزم التذكير بأن معنى “خالصة ” أنها مخصصة لهم من دون الكافرين ، وقد يُحمل المعنى على أنها ستكون هذه الأنعم هي تشبه تلك الدنيوية لكنها في الآخرة خالصة من الشوائب والمعيبات ، مثلا قد تكون التفاحة في الدنيا مصابة من حشرة أو طير أو معيبة ، لكن تلك الأخروية خالصة نقية كاملة المواصفات .
هنالك مسألة أخرى قد ينتابها الخلط أيضا ، وهي ماهو الأقدس الدين أم الحياة ؟
إذا عدنا الى علة خلق الإنسان الإنسان أصلا ، سنجد قوله تعالى : ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات : 56 ) أي معرفة الله وعبادته ، وهذا الأمر في الحياة الدنيا ، أي لا يتم هذا الأمر إلا مع الحياة ، لأن الموت يقطع هذه العبادة وينهيها ، إذن فحياة الإنسان مقدسة لأن العبادة لا تتأتى إلا بها .
الدين أنزله الها على الإنسان هدى ، ولم يفرضه عليه ، بل هو متاح كأحد خيارين : إما القبول به أو رفضه ، وبهدف تنظيم حياة الناس وتحقيق سعادتهم في الدنيا وفلاحهم في سعيهم لنيل رضا الخالق .
من هنا فالحياة مُقدّمة على الدين ، فمن اعتدى على شخص فسلبه الحياة بغير حق ، أو حتى قام بالإنتحار ، غضب الله عليه ولعنه ، لأن منح الحياة للبشر وإنهاءها حق للخالق وحده ، ومن نازعه ذلك فقد ارتكب أكبر الكبائر وهي الشرك ، وعليه فإن موجبات القتل انحصرت في أمرين لا ثالث لهما : القصاص من القاتل ، ودرءا للفساد الذي يلحقه المجرمون بأمن الناس وأرزاقهم ” مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ” .
الدين لا يطلب من البشر الموت لأجله إلا في حالة الإنخراط في النفير العام للقتال للدفاع عن الدين أو الديار ، لكنه يريد من البشر أن يكرسوا الحياة من أجل إعلاء شأنه .. ليعيشوا سعداء .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى