جامعةُ مؤتةَ تُخَرِّجُ فرسانَها / أ.د. خليل الرفوع

جامعةُ مؤتةَ تُخَرِّجُ فرسانَها
كان دعاءُ الرسول عليه الصلاةُ والسلام لجيشِ مؤتةَ حينما قَفَلَ عائدًا إلى المدينة وقدْ عيَّرَه صبيانُها بأنهم الفُرَّارُ ، فقال قولتَه المشهورةَ : إنهم الكُرَّارُ إن شاءَ اللهُ استنفارًا للسيوفِ المنيرةِ بوجههِ ، وللقلوبِ المتوضئةِ بنور هيبتِه لتكونَ نُبوءَةً مُحَقَّقَةً ثَـمَّ في اليرموك من بعدُ ، وكلا الموقعتينِ على أرضِ الأردنِّ كانتا بِشرًا دائمًا ونصرًا مؤزَّرًا وبَدْءَ التكوين ودورةَ الحياة ، مؤتةُ الفتح الأول وقد سُلَّ فيها الرجالُ من معادنِ خِيَارِها كما تُسَلُّ بِيْضُ السيوفِ من أغمادها ؛ فكانت الفجرَ وصدرَه، والضُّحَى وصبحَه ، والأصيلَ وظلَّه ، وكان لزيدٍ بن حارثةَ حِبِّ الرسول عليه السلامُ ، وجعفرِ ابنِ عمه وأكثرِ الناس شَبَهًا به خَلْقًا وخُلُقًا ، وعبدالله بنِ رواحةَ شاعرِه : الحُسَنَيَانِ الأكملانِ ، ولابنِ الوليدِ أن يكونَ سيفَ الله المسلولَ على رقاب روما وفارس ، منذ ذاك وعلى هذه الأرض ما يستحقُّ الشهادةَ والحياةَ ، كانتِ الكَرَّةُ الكُبْرى في اليرموك للسيفِ المسلولِ نفسِه ولمُعَاذِ بنِ جبلٍ وشرحبيلَ ابنِ حَسَنَةَ وأبي عبيدةَ أمينِ الأمة وعمروِ بن العاص ويزيد ابن أبي سفيان . مؤتةُ الغزوةُ جَنُوبًا واليرموكُ الموقعةُ شمالًا كانتا حاسمتينِ في تاريخ الأمة لتستكملَ جيوشُ الفتحِ سيرورتَها الحركيةَ شرقًا في أرض فارس وغربًا في مصرَ وبلاد أفريقية ، وقد كتبوا على وجهِ الأرضِ وفي شقوقها بدمائِهم وحِنَّاءِ خيولِهم : أن الحياةَ حرامٌ عليهم ما دامَ الهواءُ مَشُوْبًا بالكفر الذي تعافُه نفوسُهُم ، فكان لأرضِ الأردن كِفْلٌ من مباركةِ النبي عليه السلامُ ونصيبٌ من دعائهِ ، وهي كذلكَ لمَّا ترتوِ بعدُ من الشهادةِ والصهيلِ وترتيلةِ الأنفالِ ، ولن يصيرَ الدمُ ماءً بل هو وِسامٌ ووِشاحٌ وعِمامة ، هكذا كان النشيدُ عربيًّا ، والوجوهُ خالصةَ العروبةِ والخيولُ والقواضبُ والرايةُ نسيجًا عربيا محضًا.
تتوشحُ مؤتةُ الجامعة هذه الأيامَ بالتاجِ والسيفِ والقلمِ لِتُخَرِّجَ فيها جيلًا في مدارجِ الرجولة من خِيْرةِ ضباطها ، فتُلقي بهم جنودًا وحُمَاةً على راحةِ وطنٍ هو العينُ ورِمشُها والقلبُ ونبضُهُ والدمُ ووشمُهُ ، هم فوجُها الثلاثونَ وهم فرسانُ الليل والنهار لا يتوكؤونَ إلَّا على أسنةِ رماحِهم ولا يسندون ظهورَهم إلَّا إلى ظُبَاتِ سيوفهم ولا ينسجونَ تراتيلَهم إلا باستدارة البدرِ ووضوءِ الفجر، قد زادتهم مؤتةُ التاريخُ والجامعةُ حكمةً من كِبارِها وجنديةَ الشهامة من شهدائها ، فهم ورثتُها وفرسانُها حينما ينادي المنادي يا خيلَ الله اركبي ، ويا روحَ الشهيدِ كُرِّيْ نَفِّسِيْ عن رجالِها وأَشْعِلي ضوءَ نارِ الأمة في رؤوس جبالها ، واصعدي إلى ربكِ راضيةً مرضيةً بعدَ أنْ لذَّ طعمَ الموتِ شاربُهُ وزالَ منه إلى أعدائهِ الوَهَنُ ، هؤلاء أبناءُ مؤتةَ قد حملتْهم سنينَ أربعًا في حِجْرِها وحُجُرَاتِ فؤادِها ، وأرضعتْهم بِلَبَاْنِهَا ، وحَنَتْ عليهم بأنفاسِها ، وظللتْهم بذوائبِها ، وقد قالتْ لهم كونوا رجالا كما كان الذين من قبلكم ، وقد كانوا، وكما هم أنتم سوفَ تكونون ، فلكمُ التَّهاني مُوَشَّحَةً بكم ومُثْقلاتُ السنابلِ مُخْضَرَّةً على هاماتِكم وصيحاتُ جعفر مزمِّلَةً قسمَكم بِنَوْرِ الأرجوان، ولأعدائِكم حُمْرَةُ الشفقِ والليلِ وما وَسَقَ ، ولهم طعمُ الموتِ وما خَفَقَ ، وغروبُ النهارِ كلما شَهَقَ .
هنيئًا لمؤتةَ بكم ، وهنيئًا للوطن بكما ، ولجيشِنا العربيِّ الشَّرَفُ والعزَّةُ والمجدُ ؛ ففي يمينِهِ كتابُ العُهْدَةِ العُمريةِ محفوظًا مرفوعًا عاليًا، وفي شِمالهِ سيفُ الله مسلولا صارمًا ينوشُ الظالمينَ عن الحِمى ، وفي القلب مآذِنُ الأقصى وتراتيلُ المسيحِ عليهِ السلامُ مَصُوْنَةً بالرُّوحِ والوردِ والدَّمِ والْلَظَى وزهْرِ الأقحوان.

أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى