ثقافة المصاطب

#ثقافة_المصاطب
م. #أنس_معابرة

اذا كنت لا تعرف المصاطب؛ فهي جمع مصطبة، وهي تلك العتبات الاسمنتية أو الصخرية التي تتواجد على أبواب المنازل والبقالات والمقاهي القديمة، وأحياناً تكون عبارة عن كراسٍ بسيطة، مصنوعة من أطباق البيض الفارغة، والمتراكمة فوق بعضها البعض.

تلك المصاطب كانت هي مصدر المعلومات والثقافة المتاحة في ذلك الحين، حين كانت المعلومات لا تأتي إلا من خلال موجات الإذاعة الحكومية، وهي بالعادة أخبار وطنية، أو أخبار تافهة لا تمت للحقيقة بصِلة، تماماً كما كانت تلك الإذاعات تبث معلومات النصر الساحق في حربنا مع العدو الصهيوني عام 67، لتتكشف الحقائق بعد ذلك عن هزيمة مُذلة.

وعادة ما تكون تلك المصاطب هي الفرصة لالتقاء أهل القرية، وتبادل الأخبار والمعلومات الثقافية، التي يتم إضافة بعض البهارات إليها، ثم تنتشر في القرية انتشار النار في الهشيم، عبر تناقلها بين المصاطب التي تعم القرى واطراف المدن.

ما أعاد تلك الحقبة بمصاطبها ومعلوماتها الشحيحة والمضللة إلى ذهني هذه الأيام هو أنها ما زالت موجودة، ولكن اختلفت الأدوات والوسائل والأشخاص، ولكن الحقيقة أنها ما زالت تعمل بكفاءة.

اليوم يحسب المرء أنه بتقليب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والاستماع إلى بعض الزنادقة والأفّاقين والمنافقين عبر مقاطع الفيديو أنهم قد اصبحوا على قدرٍ عالٍ من الثقافة، وقادرون على الحديث في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بكل ثقة واعتداد.

وكان للحديث عن المواضع المتعلقة بالشريعة النصيب الأكبر من تلك الأحاديث، كل شخص قادر على تفسير أية قرآنية أو حديث نبوي كما يحلو له، وينشر تلك السموم عبر المصاطب الحديثة، ليتناقلها العامة دون حرص أو تأكد من حقيقة تلك المعلومات.

أما وصفات الطبخ والعلاج؛ فحدث ولا حرج، الكل أصبح ذا خبرة في اعداد أشهى المأكولات، وهو لا يعرف الطريق إلى مطبخ منزله. وغيره من هو قادر على إعطاء وصفات لجميع العلل والأمراض، فثمرة القشطة تقتل السرطان، ومنقوع الخيار بالثوم يقضي على السكري، وفي الوقت ذاته؛ تجده يشكون من الضغط، والسكر، والدهون، والروماتيزم، وانسداد الشرايين، وغيرها.

مع تقدم الحرب على غزة؛ انتشرت العديد من مقاطع الفيديو التي تحتوي على معارك ضارية، قال ناشروها انها وقعت بين المقاومة والاحتلال، ليتبين بعد تفكير قليل وتأكد بسيط أنها مقاطع من لعبة حاسوبية لعينة.

كما انتشرت صور الشهيد إسماعيل هنية وأمامه مائدة تضم صحون الحمص والفول والفلافل، لتدّعي أنه يعيش في قصور وفنادق فخمة، بينما يموت أهلنا في قطاع غزة، حتى بعد أن سقط العديد من أولاده وأفراد اسراته شهداء في قطاع غزة، ثم هو شهيداً مقبلاً غير مدبر، ما زالوا يصرّون على حماقتهم وجهلهم.

من بين جميع المنشورات التي أشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بإمكانك القول أن 30% منها ذات محتوى فكاهي كوميدي، ومقالب سخيفة، تكررت حتى قُتلت، و30% منها وصفات للطبخ أو العلاج، و30% منها يدّعي الثقافة والعلم، أو أنها أقوال لكتّاب كبار أمثال الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، أو شخصيات مشهورة أمثال الدكتور أحمد الشقيري، وتجد في النهاية أنها كتابات ملفّقة، ولا تمت للكاتب المذكور بصِلة.

أنا لا ألوم ناشر تلك السخافات التي يهدف من خلالها إلى جمع أكبر قدر من الإعجابات وإعادة النشر، والوصول إلى اكبر عدد من المتابعين، فهو النجاح الوحيد الذي يحققه في حياته، وعدا ذلك؛ تراه يقبع في فشل كامل، من جميع نواحي الحياة.

ولكنني ألوم من يتابع تلك الحسابات من الأساس، أو يقوم بإعادة النشر دون التأكد من حقيقة تلك المعلومة أو مصدرها، ويساهم في إعادة أفكار المصاطب القديمة، ولكن عبر الحواسيب، والهواتف الذكية.

إننا نعيش اليوم في عصر الأجهزة الذكية المتقدمة، والعقول الغبية المتخلّفة، التي تستخدم كل تلك التكنولوجيا المتاحة لنشر الأكاذيب، والاشاعات التحريضية، والعنصرية المذمومة، والطائفية القاتلة، والقبلية الجاهلية.

عزيزي مثقف المصاطب الحديثة، أرجوك اختر منشوراتك بعناية، وحاول أن تتأكد من مصدر المعلومات وحقيقتها، ولا تكن سبباً لنشر الجهل بين الناس، فرب قارئ أو مشاهد أوعى من ناشر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى