ثقافة #القبول_بالأكاذيب المريحة و #نتائج_اختبارات_PISA
كتب .. #أيمن_صندوقة
أوجاعنا كثيرة ومترابطة، وبرغم الانشغال بما يجري في فلسطين لا أجدني قادرا على تجاوز التعليق على #نتائج #الاختبار_الدولي_PISA والذي تعقده منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD كل ثلاث سنوات لتقييم #الطلبة في القراءة والرياضيات والعلوم.
تخبرنا نتائج الجولة الأخيرة لهذا الاختبار والتي عُقدت عام 2022 أننا نقف عند ترتيب متأخر جدا من بين الدول التي شملتها هذه الجولة من الدراسة، في الحقيقة اقتربنا كثيرا من الوصول للمركز الأخير ، نتائجنا هذه تؤشر بوضوح إلى #تراجع غير مسبوق قياسا لنتائج سابقة لم نكن فيها بخير أيضا..
ابتداء فإنني أتوجه إلى وزير التربية والتعليم طالبا منه الإسراع بتشكيل لجنة من المختصين الميدانيين (غير الفضائيين ولا الاستعراضيين) لدراسة أسباب ما تكشف عنه هذه النتائج، وأن يحدد معاليه إطارا زمنيا لعمل اللجنة لا يتعدى ثلاثة أشهر وأن يشمل تكليفها تحديد الأسباب وأوزانها وآلية التوزين المعتمدة بعيدا عن الأحكام الانطباعية ، وتوصيات المعالجة العاجلة للحال المزرية التي وصل إليها التعليم في بلدنا، ثم أن يتحلى هذا العمل بالشفافية الكاملة وأن يتم نشر تقرير اللجنة بلا إبطاء، فنحن نتحدث عما يمس كل مواطن بشكل مباشر، ويكون من حق الجميع بعدها متابعة خطط الوزارة لمعالجة الكارثة التي مازالت كل الدلائل تؤكدها وتكشف عنها.
بالنسبة لي شخصيا – وربما لكثيرين ممن يحتكون بواقع التعليم وتقييم مخرجاته يوميا – فإننا لا نشعر بأية درجة من المفاجأة ، فالتردي و #الانهيار في مستوى تحقق أهداف #المناهج هو حقيقة لا ينكرها إلا مكابر، وقد قلنا ونشرنا وكررنا دق ناقوس الخطر بلا طائل.
وألخص تعليقي على الاختبار المذكور ونتائجه بما يلي:
أولا: من المؤسف حقا أن نكون بحاجة إلى مثل هذا الاختبار غير الوطني ليكشف لنا عن واقع مستوى طلبتنا في الجوانب التي يقيسها هذا الاختبار بحيث تحصل لنا مفاجآت وهزات، لا أقلل من أهمية مثل هذا الاختبار وأمثاله والوظيفة التي يمكن أن يؤديها في إعطاء مؤشرات، لكنتي أنتقد غياب التقييم الوطني الجاد لمخرجات العملية التعليمية بعيدا عن الامتحانات المدرسية وكشوفات علاماتها العملاقة التي لا تعكس سوى الوهم اللذيذ ، وبعيدا عن التمثيليات التي سميت اختبارات وطنية ومازالت تطبق بطريقة تفتقر لأدنى درجات المصداقية والموضوعية ولن أفصّل فالحقائق معروفة.
ثانيا: إننا في مجتمع أصبح يمارس الكذب على نفسه في كل شأن من شؤونه دون شعور ، نعم فقد مارسنا الكذب على أنفسنا بشكل مستمر ومتكرر حتى صرنا نفعل ذلك آليا في كل شأن من شؤوننا دون تحرج ، يشمل ذلك شؤوننا السياسية والاجتماعية وحتى التعليم والصحة وغيرها من مناحي حياتنا …
ثالثا: وإن من مسؤولية وزارة التربية والتعليم إذن أن تعالج النظام التعليمي بإدراج محكات جادة لتحقق نواتج التعليم المأمولة من عدمه بطريقة تزرع وتعزز فيها قيم العلم والعمل والجدية في التعلم والتعليم ، إننا أمام حاجة لتربية شاملة تقوم على قيم راقية إذا كنا جادين في الوصول لتعليم حقيقي.. وهذا الأمر ليس صعبا كمت يبدو لكثيرين من اليائسين والمحبطين..
وعلى سبيل المثال على ارتياحنا العام للأكاذيب والوهم فالطفل اليوم يشارك عشرات المرات في احتفالات مدرسية يكون اسمه فيها “خريج”.. وتزغرد الأمهات والجدات، ويشتري الآباء الهدايا ويبارك للطفل وذويه المعلمون والمديرون والأهل والجيران في حالة من الوهم اللذيذ والكذب المستمر على الذات والجفاف الذي يؤدي للبحث عن أية فرحة، بينما لا يكاد يعبأ مجتمعنا كله بما صار يعرفه ويتقنه هذا الطفل بحق من الأهداف المتضمنة في المناهج المدرسية رغم أنه يتخرج في هذه المدارس كل عام عدة مرات !! أزعم أن أكبر عمليات الغش والخداع في مجتمعنا هي تلك التي تمارسها المؤسسات التعليمية من الروضة للجامعة على هذا الشعب المسكين، طبعا شعبنا المسكين هذا يحب جدا من يكذب عليه بشأن إنجاز أبنائه في التعليم !! وإنني لا ألوم شعبنا هنا ، فهو ضحية لما يضيق المجال عن تفصيله في هذه المقالة من الأسباب التي أوصلته لهذه الحالة البئيسة من استجداء الفرح والبحث عن أبواب الفخر بأبنائه والرضا عنهم بحق ودون حق. إن التجاوز عن فهم وتحليل ثقافة مجتمعنا والتعامل معها بكل جدية وكما هي في الواقع لهو كفيل بإفساد كل خطة وتدمير أي معالجة أو برنامج عمل مهما كان برنامجا ناجعا في بيئات ثقافية أخرى.. وإن على متخذي القرارات ومصممي الأنظمة التعليمية أن يفهموا ويراعوا ذلك وهم يتخذون القرارات ويصممون الأنظمة والتعليمات..
وفي هذا السياق أؤكد ما دعوت له سابقا من ضرورة إضافة امتحانين وطنيين إلى نظامنا التعليمي – غير امتحان شهادة الثانوية العامة- أولهما في نهاية الصف الخامس والآخر في نهاية الصف الثامن..والمقترح أن تكون هذه الامتحانات في أربع مواد فقط.
وبسبب خصوصيات مجتمعنا المشار لبعضها في البند السابق من هذه المقالة فإنه حتى تنجح هذه الامتحانات في تحقيق أهدافها لا بد من أن تكون نتائج الطالب فيها مرتبطة بكل من :
1) تقدم الطالب إلى المرحلة التالية من التعليم، وهذا لا يعني أن نتنازل عن إلزامية التعليم ، بل يعني ضمانة أن لا يمر الطالب من مرحلة إلى أخرى دون تحقيقه لحد مقبول من الإنجاز المرتبط بالمنهج.
2) تقييم معتمد للمعلمين الذين درسوا هذا الطالب خلال الأعوام الثلاثة السابقة للامتحان يكون له نصيب الأسد من النقاط التي يحرزها كل معلم بما يحدد تقدم رتب ودرجات المعلمين.. وإن ربط نتيجة الطالب بنقاط معلميه أمر يسير في ظل وجود البرامج الحاسوبية المعتمدة أصلا في الوزارة.
3) تقييم معتمد للمدارس الحكومية والخاصة يؤدي إلى تصنيف لكل منها في ضوء نتائج طلبتها في تلك الامتحانات..
إن تخيل أو توقع أن إجراءات أقل جدية من مثل هذه الخطوات ستؤتي أكلها في إنقاذ التعليم هو وهم وكذب على الذات يجب أن نتوقف عنه.. كما أن تصور أن تغيير الكتب أو معالجات نظام الثانوية العامة مهما كانت ستكون كفيلة بأهداف يفترض أن تحققها العملية التعليمية في الطالب خلال ثلاثة عشر عاما لهو ضرب من ضروب الخيال..
أقولها وأجري على الله : إن واحدة من أكبر مصائب نظامنا التعليمي تكمن في غياب التقييم الجاد للطلبة في جميع مراحل التعليم تقريبا ، من الروضة حتى الصف الثاني عشر ، ومؤخرا صار يمكنني القول دون تردد إن التقييم الذي يحصل في مراحل التعليم الجامعي كلها قد صار وهما أيضا وذلك كضرورة تفرضها مخرجات التعليم المدرسي وتفرضها حسابات السوق أيضا فيما يخص الجامعات الخاصة..
وعليه فالسبيل للمعالجة برأيي كان ومازال يمر في إحدى خطواته عبر إدراج هذه الامتحانات في نظام التعليم وإكسابها القيمة اللازمة من خلال جدية ارتباط نتائجها بما ذكرته أعلاه، أما معالجة قيم وثقافة المجتمع تجاه الموضوع فذاك أمر له معالجات أخرى مطلوبة في مسار أطول مرتبط بالنهج الاقتصادي للدولة وبالوعي الحضاري والديني.
رابعا : بادر بعض المعلقين هنا وهناك لإلقاء المسؤولية على المناهج المدرسية ( يقصدون الكتب المطورة في العلوم والرياضيات) بأنها هي السبب في التردي ونتائج الاختبار الأخير ، وذكر بعضهم أن تطوير المناهج في السنوات الأخيرة قد كلف الخزينة “مئات ملايين الدنانير” دون نفع يرجى بل على العكس.. وإن لي تعليقات على هذا الكلام :
1) تقدم لاختبار PISA الأخير طلبة من الصف العاشر في العام الدراسي 2022 ، وللعلم فإن هؤلاء تحديدا تعرضوا للدراسة مع الكتب المطورة أقل من ستة أشهر فقط قبل تطبيق الاختبار (هذا الجيل هو آخر جيل طالته جدولة تطوير مناهج الرياضيات والعلوم)
وبالتالي فنحن أمام تجنٍّ لا مبرر له على تلك الكتب، وهذا حصر للأسباب يزيدنا ضياعا فوق الضياع ويجعلنا نظل في عمى عن الأسباب الحقيقية للمشكلة أو الكارثة التي وصلها حالنا التعليمي..كما أن كل مختص يفهم أن (المنهج) ليس هو (الكتب) المطورة ولا غير المطورة إذ لا ينحصر المنهج في الكتب بل يتعداها إلى المعلم والبيئة والنظام التعليمي وغيرها من العناصر.
2) ركز اختبار PISA في هذه الدورة على الرياضيات بنسبة 70% وعلى كل من القراءة والعلوم بنسبة 15% لكل منهما ، وإن معايير هذا الاختبار في الرياضيات تركز على قدرة الطلبة في معالجة مشكلات من الحياة بتوظيف المفاهيم والمهارات الرياضية، وفي هذا الجزء تحديدا لا شك عندي أن كتب الرياضيات والعلوم المطورة هي أفضل بكل المقاييس من سابقتها، بل إنني أرى الكتب المطورة أفضل من سابقتها في معظم معايير المقارنة،أقول رأيي المستند إلى اطلاعي وممارستي في التدريس والإشراف وإلى المقارنة بعدد من المقررات العربية في مراحل متعددة، وبالنسبة لي فلم يكن أساس مشكلتنا في الكتب المقررة أبدا، لا في المرحلة الحالية ولا السابقة ، وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحسينات مطلوبة دوما ، وما زال رأيي أنه قد حصل تقصير كبير في تدريب المعلمين على محتواها قبل وبعد البدء بتطبيقها ، كما أنه تم الإصرار على البدء بتطبيقها بالتزامن مع ظرف غير مناسب أبدا إبان حائجة كوفيد-19..
3) شدني الحديث عن المبالغ الضخمة التي قيل أنه تم إنفاقها على الكتب المطورة ، ثم تبين لي بالسؤال المتكرر للمعنيين أن ميزانيات المركز الوطني لتطوير المناهج منذ 2018 حتى 2023 لم تبلغ في مجموعها عشرة ملايين دينار..
هذا المبلغ هو كامل ميزانيات المركز الوطني لتطوير المناهج شاملا ذلك تكلفة عقد كولينز وإيجار مقر المركز ورواتب موظفيه جميعا وأجور فرق التأليف لجميع الكتب التي تم تطويرها والترجمة والدورات والكهرباء والماء …. فلماذا هذه المبالغات والقول بإنفاق مئات الملايين من الدنانير!؟ نحتاج قليلا من الموضوعية والمصداقية إن كنا جادين في معرفة أسباب التردي والشروع بمعالجتها بعيدا عن تصفية الحسابات والمناكفات السخيفة.
وعلى كل حال ، فإذا كنا سنقوم بتطوير للمناهج يشمل نظم التقييم الجادة كما طرحنا هنا مثلا ، فلا أرى أن نستخسر أضعاف هذا المبلغ سنويا في سبيل إنقاذ حقيقي للتعليم ، وإنه ليتم فعلا هدر مبالغ طائلة فيما هو أقل نفعا وأهمية من إنقاذ التعليم.
للحديث بقية..