تنمية بشريّة

#تنمية_بشرية

#مصعب_البدور
لا أكذبكم القول إن قلتُ لكم إنني لم أكن يومًا من روّاد التنمية البشرية، ولا من متعاطي دورات تطوير الذات، وإن عاب عليّ الزملاء والأصدقاء في شبابي عدمُ اكتراثي، ربما كان جوابي يصدمهم: أنني راضٍ عن ذاتي وتطوّرها.
لكن مع كثرة الدعوة إلى التجريب، ذهبتُ معهم خارجًا من جامعة آل البيت إلى مدرّجات جامعة اليرموك، وحين جلسنا بين أغمار المتدرّبين رأيتُ الفخر في وجوه المنظّمين لكثرة الأعداد المشاركة في هذه الدورة، المتشوّقين لسماع الدكتور الشاب.
بدأت فعاليات الدورة، وصرت أضحك بصوت مرتفع؛ فحين قال المدرّب المتحمّس:
(لو قلتُ لك أغمض عينك، ثم قلتُ لك سأضع قطعة ثلج في يدك، ووضعتُ جمرة، ستمسكها وتقول: أحوه، معانيًا من برودة الثلج، ولو قلنا لك سنضع جمرة ووضعنا لك ثلجًا، فإنك ستحترق).
ضحكت، فقال لي صديق: يبدو لي أعجبك. فقلتُ له: من زمان كان لازم تدلّوني على هالكذّاب، خلّيني أغيّر جو.
ارتفع صوت المحاضر الشاب، صاحب الصوت غير الإذاعي ولا الخطابي، وصاحب الوجه غير اللطيف، وهو يخرج من قصة ويدخل في أخرى، حتى طلب من الحاضرين:
(جرّب أن تُشير إلى صديقك بإصبع يدك، وتقول له: أنت السبب).
أضحكتني ردّة فعل الجمهور وهم يُشيرون بحركة الإصبع لبعضهم، وهم مسرورون — لحظة، شكلكم فهمتم خطأ، قصدي حركة الإصبع التي علّمهم إياها المدرّب — المهم، فاجأني بسؤاله للجمهور: كم إصبعًا أشرتَ به إلى صديقك؟
يا الله!! يا إلهي!! يا ربّاه!!
لقد اكتشفنا أنه إصبع واحد. هزّ رأسه بانتصار وهو يقول: بقيّة الأصابع الأربع تُشير إليك أنت.
في هذه اللحظة أخذتُ أغراضي ومضيت؛ لأنني ضيعت من عمري ساعة، لو نمتُ فيها لأرحتُ جسدي الذي سافر من المفرق إلى إربد.
لم تنتهِ علاقتي مع التنمية البشرية المبنيّة على الضحك غالبا وأحيانًا الشتم؛ فصادف لي أن تلبّستُ مُجبَرًا بدورات تدريبية فيها هذا النوع من الكلام الفالصو، حيث تحدّثت المدرّبة عن شاب ترك الجامعة وتبع شغفه وصار من أثرياء العالم المعدودين (بِل غيتس).
قلتُ باندفاعة: أنا أعرف مئة ألف شاب تركوا الجامعة وتبعوا شغفهم، وهم الآن مطلوبون للتنفيذ القضائي، أو مُعمَّم عليهم، أو يحضرون جلسات بسبب القضايا المالية.
طبعًا اتّهموني بالسخرية، بس أنا ولا همّني.
وفي مشهد من حوار آخر، تحدّث فيه المتحدّثون عن الوظيفة، وأنها مجرّد عبودية اخترعتها الرأسمالية، وأن علينا ترك الوظيفة، وأن نتبع شغفنا ومواهبنا، ونعمل في قطاعات غير وظيفية.
سألتُ المتحدّث عن صواب فكرته بقولي:
(ألم يتّخذ عمر بن الخطّاب عمّالًا وموظفين للدواوين؟ ألم يشهد التاريخ الإسلامي على وجود أفراد يشتغلون في دكّان القماش ويأخذون أُجرتهم كل أسبوع؟ ألم يكن هناك من يعمل ورّاقًا؟ ألم يكن هناك من يعمل كاتبًا في الدولة؟ ألم يكن المعلّمون في المساجد يأخذون نقودًا بدل التعليم؟ أم أن هذه التفاصيل الصغيرة من التاريخ غير مرئية؟)
ليردّ عليّ المتحدّث بأنني لا أملك مهارات الحوار، ولا الأسلوب المهذّب، وشهد الحاضرون على أنني عدوّ الإبداع، ومفسد الجلسات المثمرة والمفيدة.
خلاصة الكلام: إن قصص النجاح التي نسمعها، لدينا آلاف القصص المشابهة لها، تشابهًا تامًا في الترتيب والأحداث، لكنها فشلت.
ومن الآخر: إذا لم تكن لديك أساسيات الحياة، فلا يوجد شغف ولا مواهب.
سامحوني، لكنني أقول: إن الكلام في التنمية البشرية مجرّد بيع كلام مكذوب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى