عندما تغيب ثقافة الاختلاف / م. موسى العمري

عندما تغيب ثقافة الاختلاف

صادفت احدهم يوماً على تويتر, يغرد هنا وهناك كرهاً وتطرفاً , يكبر لموت ثلة من الناس , ويهلل لتفجير “كفار” اخرين في بلاد المسلمين ومن المسلمين , فدعوت له بان يكف الله شرور نفسه عن الابرياء , فاتهمني خلال دقائق بانني وثني !
هالني ما رأيت , كيف لشخص لا يعرف الاخر اساساً الا من خلال شاشة ,و لم يجر بينهما حوار الا ببضع كليمات, ان يهبّ بهذه السرعة لقدحه وطعنه في عقيدته !
لعل هذه الحوادث اصبحت مألوفة لنا بشكل كبير , ويكفي لأحدنا فقط ان يتصفح أي نقاش يدور على وسائل التواصل الاجتماعي, ليرى مدى التناحر والتضاد في الاراء, واللذي يصل في كثير من الاحيان حدّ قدح الاخر في اخلاقه , او في عرضه , او حتى اتهامه بالكفر تارة , و في الانصياع للتمويلات الخارجية الماسونية الامبريالية الخارقة تارة اخرى.
ربّما قبل سنوات عدة وقبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي , لم نكن نصادف هذا الكمّ من السجالات , حيث كانت الادوات الاعلامية محصورة على الورقية والمتلفزة منها. ولكن, بعد الاتساع الكبير في استخدام وسائل التواصل و هبوب نسائم الربيع العربي, وما فجرته من تحول جذري وفوضوي لشعوب رضخت تحت وطأة انظمة شمولية , برز بشكلٍ غير مألوف شكل جديد من خطاب التخوين والاقصاء والتجريح بين مختلف الاطياف السياسية والشعبية , بل وازداد المشهد تطرّفاً حتى وصل الى حد ايجاز القتل لمن يخالفنا الرأي , او التوجه , او حتى الرؤية , واصبح المجادلون يمتهنون بحرفية ثقافة الاقصاء , واحتكار الحق وحده , بل وبصورة مطلقة , ليجعل غيره في دقائق معدودة في دائرة الخيانة , او الكفر , او الردة.

بنظرة تحليلية شخصية , أستطيع القول ان ما نواجهه من غياب لثقافة الاختلاف , وما افرزته من تناحرات على الارض بعد سلسلة التحولات السياسية الاخيرة, هو نتاج سنوات من الاغراق الاعلامي الموجه , حيث لم يكن للمواطن العربي من مصدر لاخباره سوى ما أريد له ان يراه , وما رُسم وجمّل له ليعتاش عليه , حتى اضحى تفكيره مبني على لبنات وضعها اعلام فاسد , صنع اوهام نظريات المؤامرة في تكوين العقل العربي, حتى اصبح احدهم على استعداد تام لتصديق ما عجزت عن صنعه الافلام الهوليودية.

وعلى الجانب الاخر, فان ما عاشه المواطن العربي في وطأة دائرة الفساد والافساد, وانعدام ثقافة التكافؤ , بحيث أضحى سقف امآله لا يتجاوز لقمة العيش , والحصول على ادنى ما رسمه من طموحاته, قد ولّد لديه نظرة احتقان و رؤيا عكسية , وشعور بالنقمة حتى على الارض التي يعيش عليها , وساهم بشكل كبير في تكوين ثقافة التطرف , التي ان لم لم تجد عند الشخص القدر الكافي من الوعي والثقافة ستحل حتماً محل ثقافة الاعتدال والاستقامة.
نتيجة لذلك, فقد اصبحنا نرى بشكل جلي نوعين من الطروحات , طرح يؤمن بثقافة التخوين لكل من يطالب في الاصلاح , بدعوى انه سبب بالفوضى , متأثراً بالآلة الاعلامية التي تصور ان كل مصلح هو ذا اجندة خارجية تريد الفساد والافساد للوطن . وطرح آخر يرفع راية الحق الاوحد ” بوجهة نظره ” ويريد ان يقاتل الجميع بالسيف , تحت مسمى الاصلاح.
ومن هنا , أرى ان الحاجة ملحة لتجديد الخطاب الاعلامي, وان فرصتنا لبناء اوطاننا تبدا اولاً بالفكر , وتعزيز ثقافة ان الأمن يبدأ اولاً بمحاربة منابع الجهل , وان الثورة بالدرجة الاولى هي ثورة مصطلحات ومفاهيم , يجب ان يعاد فيها تعريف كثير من المصطلحات النسبية كـ “الارهاب” , و ” الاجندات ” , و ” الاصلاح” بل وحتى اعادة تعريف “الوطن” , تلك التعاريف التي اصبحت مداخل مغرية للتلاعب بمستقبل الشعوب , واستخدمها الكثيرون لتمرير اسوأ انواع الاجندة .
ولا بد ان نعي , بأن حاجتنا لتغيير واقع اوطاننا الاقتصادي والسياسي والتنموى , لم ولن ينفصل بطبيعة الحال عن الحاجة لتغيير فكرنا ونظرتنا لواقعنا , وترسيخ ثقافة التعايش , والنظر بعين الآخر , وتجسيد واقع اننا جميعاً في سفينة من خرقها فقد اغرق جميع اهلها . ومن لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره !

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى