قراءة في منسوب الحريات العامة في الأردن / * د. عبدالله مطلق العساف

قراءة في منسوب الحريات العامة في الأردن
ليس من دواعي التجنّي أو الشطط والتجاوز في القول ومجافاة الواقع، أن القول بأن منسوب الحريات العامة، السياسية والفردية، وحرية الاعلام والرأي، قد شهدَ تراجعاً غير منكور ولافت في الأردن. ومصداق ذلك شهادة التقارير الوطنية والدولية، ونشطاء الرأي العام، والأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني في الأردن.
وأن ما رافق الفاصل الزمني القصير مما يُسمّى بالربيع العربي، من ارتفاعٍ ملحوظ في سقف الحريات، وحرية التعبير منها بوجه خاص، كان أشبه “بجمعة مشمشية”، ذلك أن التداعيات التي رافقت أحداث الثورات العربية اجتماعياً وسياسياً وأمنياً، جعلت الحكومات تعود إلى سيرورتها القديمة، في إهباط سقف الحريات مرة أخرى، مستفيدة من عامل الخوف الذي بدأ يتسرب إلى الكثيرين من أبناء الأردن، متأثرين فيه بما حصل ببعض الدول العربية من اضطرابات. وهكذا فبدلاً من أن تمضي الحكومات حثيثاً في اظهار إرادتها الصريحة في الإصلاح الحقيقي والتحولات الديمقراطية لتجنيب البلد والمجتمع الخضات الممكنة مستقبلاً فقد عمدت إلى الاستثمار في غريزة الخوف عند الأردنيين، لكي تتراجع إلى الوراء خطوات عديدة في مجال الحريات العامة، وبناء الحياة السياسية الجديدة في الأردن، كما كان مؤملاً.
النتيجة أن الدولة أصبحت بأجهزتها الرقابية والأمنية حاضرة أقوى مما مضى، واستمرأت في التضييق على الحريات، والرقابة المشددة على الإعلام والنشاط السياسي، وربما بلغت الانتهاكات بحق هذه الحريات أرقاماً غير مسبوقة.
وأكدت مجموعة من التقارير الحقوقية أن الحريات العامة في الأردن هي في تراجع مستمر، بخاصة بعد ان أقرّت الحكومة في أيلول 2010، قانون جرائم أنظمة المعلومات الذي فرض قيوداً رقابية صريحة على حرية التعبير، وخاصة عبر وسيلة التواصل الاجتماعي/ الانترنت.
كما أنها أكدت سياسة تغييب المشاركة الشعبية الحقيقية للمواطنين في رسم واقرار السياسات المتعلقة بتطلعاتهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، فضلاً عن تحقيق مستوى لائقاً من العدالة الاجتماعية، والمساواة بين الأفراد، ناهيك عن التكافؤ في الفرص بين المواطنين كما نصّ على ذلك الدستور.
كما شهد الأردن في عام 2010 تطورات وأحداثاً مهمة أثّرت على تمتع الأردنيين بحقوقهم المختلفة، وفي مقدمتها الحقوق المتعلقة بالحريات العامة، ومنها إصدار (48) قانوناً مؤقتاً، شكلت في مجموعها بحسب التقرير الوطني لحقوق الانسان ” تغوّلاً من السلطة التنفيذية على دور السلطة التشريعية”. وشدّد المركز الوطني في تقريره على أن تراخي الحكومات الأردنية المتعاقبة في تنفيذ الاصلاح، وعدم تعزيز الحريات العامة يشكل التهديد الأكبر لأمن المجتمع وسلامته والوحدة الوطنية.
كما أن المركز شدّد على ضرورة تعزيز النهج الديمقراطي، ودعم الحريات العامة من خلال المطالبة بتعديل التشريعات الناظمة لها، ورفع القيود التي تمارسها السلطة التنفيذية على هذه الحريات والحقوق.
وذكر بأن مطالباته للحكومة كانت تؤكد ضرورة هذه الخطوات، ولكنها “لم تلق آذاناً صاغية لدى الحكومات التي تعاقبت على السلطة”.
ويُذكر في هذه الخصوص إلى أن منظمة Freedom house ، ذكرت في تقريرها واقع الحريات في الأردن لعام 2009م، ملاحظة تراجع تصنيف الأردن إلى “بلد غير حرَ”، بعدما كان ضمن الدول المصنفة بـ “دول حرّة جزئياً”، وذلك في التقارير السابقة.
وبينت أن مجالات التضييق على الحريات العامة شملت الإعلاميين والصحفيين، والنقابات بأنواعها، والناشطين في الأحزاب، وكذلك الأنشطة الطلابية في الجامعات الأردنية. ما يعني أن هناك سياسات حكومية ممنهجة للحدّ من الحريات العامة بشكل عام، بحيث يمكن القول بأن الحكومات حاولت إغلاق المجال العام المدني في الدولة.
واللافت اليوم أن الأردن تراجع فعلاً إلى الخلف، في مجال الحريات الشخصية، سيما حرية الرأي والتعبير، وهناك كثيرون يشيرون كما لو أن السلطة تمارس شكلاً من أشكال القِصاص، من فترة الربيع العربي، الذي تمتع فيه الأردنيون بسقف معقول من هذه الحريات. والواضح أن حرية التعبير هذه في العام 2014/ 2015، وُضعتْ عليها كثيرٌ من القيود حدّت من قدرة المواطنين ووسائل الاعلام على انتقاد السياسات الحكومية والمسؤولين.
والأمر نفسه ينطبق على حرية الرأي في الإعلام والحريات الصحفية، فإن التقارير الراصدة لدرجة الحرية الإعلامية في الأردن ينبغي أن تلفت نظر أصحاب القرار والحكومات إلى جوانب القصور التي تقتضي التدخل لاتخاذ إجراءات ضرورية لتصويب المسار، مثلما أنها مفيدة لتعظيم جوانب النجاح للبناء عليها في مجال حرية الاعلام والكلمة، وأن تبدو مترجمة ومنسجمة مع جهود تطوير البيئة التشريعية، الناظمة من جهة للعمل الاعلامي، والضامنة من جهة أخرى للحريات الإعلامية، ورفع سقف هذه الحريات.
وهنا لابُدّ من الإشارة إلى قانون المطبوعات والنشر المعدل في الأول من حزيران لعام 2013م، حيث أن المؤمل والأساس هو مراجعة القانون بما يؤكد رفع مؤشر ومقياس الحريات الإعلامية وليس العكس. بيد أن النتيجة المترتبة على تطبيق هذا القانون، تمثلت في تسهيل أوامر التضييق على الحرية الإعلامية عندما تمّ حجب زهاء (300) موقع إخباري الكتروني بذريعة “عدم الترخيص”. ما أثار بالفعل احتجاجات محلية داخلية، فضلاً عن القلق الدولي بشأن تطبيق حرية المعلومة، من حيث أن الحجب بقرار إداري من شأنه أن يقيد حرية التعبير، خلافاً لالتزامات الدولة والحكومة بمقتضى نصوص الدستور أولاً وقبل كل شيء.
وعند النظر في التقرير السنوي لمركز حماية وحرية الصحفيين على سبيل المثال، لحالة الحريات الإعلامية في الأردن لعام 2014م، نجده يخلص إلى أن الحريات الاعلامية لم تحرز أي تقدم ملموس عن العام السابق، وأن إعداد جدول رقمي للنسب المئوية لتذبذب هذه الحريات، يكشف عن حقيقة التراجع بدلاً من التقدم والارتفاع إلى سقوف أعلى من الحربات.
وقد بلغت الانتهاكات المسجلة التي تَعرّضَ لها الصحفيون والإعلاميون عام 2014 نحو (153) انتهاكاً. ولوحظ أن القانون أصبح أداة تلجأ إليها الحكومة وسلطاتها العامة بصورة متزايدة للضغط على الإعلاميين، ويُذكر أن التقرير المذكور سجّل لـ (869) انتهاكاً وقع خلال الخمس سنوات الماضية 2010-2014م، كما سجّل (35) نوعاً وشكلاً من أشكال الاعتداءات والانتهاكات نتيجة استمرار سياسة التدخلات والقضايا والترهيب.
في الخلاصة فإن الوقائع والتقارير المختلفة الوطنية والدولية جميعها تكاد تتفق على أن مؤشرات الحريات في الأردن هي في تراجع. فيما الحكومات من جهتها لا تشعر بالقلق من هذه التقارير، وذلك لجملة من الأسباب أبرزها:
– استرخاء الحكومات من تعثر تجارب الربيع العربي في دول الثورات، والترويج لبروز الأردن كنموذج يستحق الحفاظ عليه- وهو أمر مطلوب بالفعل- ودعمه مهما كانت سياسته وتجاوزاته في مجال الحريات وحقوق الانسان.
– استثمار الحكومات في مسألة محاربة الارهاب، والتذرع بهذه الاستراتيجية وفي الوقت نفسه التغاضي عن مسألة الحريات العامة في الأردن، لا بل اتخاذ هذه الاستراتيجية للتضييق على هذه الحريات، عبر القضايا والاعتقالات وفرض الرقابات المختلفة، بذريعة الأمن الوطني وغيرها من الذرائع الأخرى.

د. عبدالله مطلق العساف
مقرر لجنة الحريات لرابطة الكتاب الأردنيين في مجلس النقباء
Dr.abdullah.alassaf@Gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى