تتعرض الحقيقة في كثير من الأحيان للتشويه ، و قد يكون هذا التشويه بعيدا كل البعد عن العفوية خاصةً عندما يكون الأمر متعلقا بقضايا تاريخية على درجة عالية من الحساسية على غرار تلك المسألة التي نتطرق إليها في هذه المقالة و المتصلة بحدث جلل مر عليه أكثر من نصف قرن من الزمن .
تعود الذاكرة بنا إلى الوراء اثنين و خمسين عاما و تحديدا إلى العام 1970 و تلك الأحداث الدامية التي عصفت بأردننا العربي الحر الأبي و إلى جزئية متعلقة بالموقف العراقي من تلك الاحداث ، فقد تداولت العديد من المصادر التاريخية مزاعم و ادعاءات ما أنزل الله بها من سلطان حول موقف نظام البعث الحاكم في بغداد و اتهمته بالتحريض السافر لقيادة المقاومة على الصدام مع الدولة الأردنية في محاولة لشيطنة هذا النظام .
من أهم تلك المصادر التي تحدثت عن هذا الأمر كتاب تاريخ الاردن في القرن العشرين للاستاذ سليمان الموسى إذ يقول ” لم تقصر حكومة العراق في صب الزيت على النار المشتعلة ” ففي آيار 1970 جاء إلى عمّان ثلاثة من أبرز رجال نظام الحكم العراقي ( عبد الخالق السامرائي و زيد حيدر و صالح مهدي عمّاش وزير الداخلية ) و اجتمعوا بعرفات و صلاح خلف و قالوا نظموا محاولة انقلاب . فستدعمكم الوحدات العراقية المرابطة في الاردن لقلب نظام الحكم الملكي ، و كان المخطط الذي عرضوه ، أن تستولي القوات العراقية على ٱربد و الزرقاء ، و أن تستولي المنظمات على عمّان ” ، و ينسب المرحوم الموسى هذه الرواية الخطيرة إلى صلاح خلف ” أبو إياد ” في كتابه ( فلسطيني بلا هوية ) فما هي حقيقة هذه الرواية و ما مدى صحتها ؟؟؟
الحقيقة أن التحريض على قلب نظام الحكم في الاردن جاء في شهر آيار / مايو من العام ١٩٧٠ من قبل النظام الحاكم في دمشق الفيحاء كما يقر بذلك في مذكراته محمد داوود عودة ” ابو داوود ” عضو المجلس الثوري في حركة فتح سابقا في كتابه الذي حمل عنوان ( فلسطين من القدس إلى ميونيخ ) و ينسب هذا الأمر إلى اللواء محمد رباح الطويل وزير الخارجية السوري الأسبق حيث قام وفد سوري رسمي رفيع المستوى بزيارة إلى العاصمة العراقية بغداد خصيصا من أجل تقديم مقترح بهذا الخصوص إلى القيادة العراقية ينص على أن تقوم القوات السورية باحتلال اربد شمالا فيما تقوم القطعات العراقية باحتلال الزرقاء و تقوم التنظيمات الفدائية باحتلال عمّان ، و يزعم ابو داوود في كتابه ذاته أن العراقيين تقدموا بعرض لقيادة حركة فتح في مطلع شهر أيلول من العام 1970 من قبل صالح مهدي عمّاش لكنه يناقض نفسه بعد ذلك في برنامج حكاية ثورة الذي أعدته و بثته قناة الجزيرة الفضائية القطرية واسعة الانتشار إذ يقول إن هذا الوعد العراقي المزعوم جاء على لسان الفريق الركن حردان التكريتي !!!!!
الأمر العجيب الغريب أن باتريك سيل الصحفي المرموق البريطاني الجنسية يورد رواية مماثلة في كتابه المترجم إلى العربية تحت عنوان ( أبو نضال بندقية للايجار ) مع اختلاف في الشخوص و المكان و الزمان اي في عناصر القصة الرئيسة !!!!! فهو يدعي أن العرض العراقي صدر من قبل شخصين اثنين فقط إلا و هما عبد الخالق السامرائي و صالح مهدي عماش و أن اللقاء مع قيادة فتح تم في الزرقاء و ليس في قاعدة الحبانية و أنه جرى في شهر تموز / يوليو و ليس في أيار / مايو و لا في ايلول / سبتمبر !!!!!
على أية حال من المؤكد أن هنالك تقريبا متعمدا لزمان اللقاء المزعوم بوتيرة ثابتة معدلها شهران اثنان كل مرة لإعطاء انطباع أن الوعد العراقي كان ساخنا جدا و قريبا من انفجار المواجهة الكبرى بين الطرفين ( الجيش العربي الأردني و الفدائيين ) و أن هنالك تناقص تدريجي في عدد الشخوص من ٣ إلى ٢ إلى واحد و أن هنالك تناقض حتى في مضمون الرواية المختلقة لكن إطلاق رصاصة الرحمة على الرواية المختلقة المفبركة من أصلها يأتي من قبل اللواء الركن عبد الرزاق اليحيى القائد الأسبق لجيش التحرير الفلسطيني في مذكراته المنشورة في العام ٢٠٠٦ تحت عنوان ( بين العسكرية و السياسة ) حيث يقول في معرض حديثه عن الخطة العسكرية التي وضعها للطرف الفلسطيني في تلك المواجهة الدامية ” قد ينبغي أن أذكر أني كنت خالي الذهن من احتمال تدخل أي قوة عربية لصالحنا فما يسمى الوعد العراقي بالتدخل لم اسمع به و ما زلت غير متيقن مما إذا صدر فعلا
“
هنالك أيضا ملاحظة خطيرة جديرة بالاهتمام حقا تتعلق بالزرقاء و سبب زجها في هذه الرواية من قبل باتريك سيل فالأمر يتعلق بأزمة حزيران / يونيو 1970 حيث بدأت المواجهات بين الجيش العربي و الفدائيين في نفس هذه المدينة التي كانت تتواجد بالقرب منها قوات عراقية كبيرة إذ ما لبث العراقيون الذين رفضوا عرضا سوريا في الشهر السابق آيار / مايو لقلب نظام الحكم في الاردن أن بادروا إلى ارسال كل من الوزيرين عبد الخالق السامرائي و صالح مهدي عماش إلى عمّان للتوسط بين الطرفين الأردني و الفلسطيني لإطفاء نيران الفتنة ، و بقدرة قادر يتحول الطرف العراقي و عبر الشخوص ذاتهم الساعين في إصلاح ذات البين إلى محرضين على الفتنة !!!!!!
لقد أدرك العراق خطورة ما يجري على الساحة الأردنية و مرامي المؤامرة الرامية إلى استدراج جيشه إلى مواجهة مسلحة مع جيشنا العربي الأردني المصطفوي و عبر عن ذلك صراحة في بيان صادر عن مجلس قيادة الثورة في القطر العراقي بتاريخ ٢٦ أيلول سبتمبر 1970 ، و دفع ثمن موقفه القومي الأخلاقي حملة تشويه مسعورة ما زالت فصولها مستمرة حتى يومنا هذا عبر عملية مبرمجة ممنهجة لقلب الحقائق رأسا على عقب ، فماذا بوسعنا أن نقول سوى حسبنا الله و نعم الوكيل .