ترويض الوحش / سعيد ذياب سليم

ترويض الوحش
سعيد ذياب سليم

تنتشر في الزوايا ، على رفوف المكتب و طاولته وحوش هادئة لكنها مخيفة، أحدهم يربض أمامي ينظر في صفحة وجهي ويحدثني بصمت، هدوؤه يقلقني ، يتسلل إليّ السأم فأترك التحديق به و أهرب بنظري بعيدا، لأسمع حفيف أشجار الحديقة ،التي تقف في العراء ، تأسرني تنهداتها و تسرقني منه همساتها ، ترى ما شكواها ؟ تتمايل ببطء أمام هزات الريح لها، حركتها العشوائية تُسقط ورقة .. ورقتين ، إنها رياح الخريف تزيل عنها ثوبها العتيق لتقف عارية أمام زمهرير الشتاء ، ثم يأتي “أدونيس” بثوب جديد في الربيع القادم.
وجدت نفسي أمعن النظر في الفقرة الثالثة من الصفحة، لا أدري كيف وصلت إلى هنا، عدت أدراجي للفقرة السابقة و أعدت قراءتها، أضيع من جديد تأخذني الذكريات بعيدا و أعيش خيالات حسبت أنني عشتها في سنوات الدراسة قد تكون من أحلام الطفولة التي نسيتها فبت أعدها ذكريات من حياتي السابقة، أجمع شتات نفسي من جديد و أعيد قراءة الفقرة الثالثة للمرة الألف وهذا الوحش فاغر فاه لا يمل من ملاحقتي .
ربما أحتاج للقليل من الشاي ، نهضت أعد فنجانا منه، أثناء ذلك أخرجت هاتفي و تصفحت عدد من رسائل البريد الالكتروني التي بدورها أعادت توجيهي لعدد من الصفحات على tumbler و twitter و Facebook نصوص مختصرة مكثفة اختيرت بدقة و عناية فائقة صممت في لوحات جميلة معبرة مع خلفية موسيقية ، فيها المعلومة و الطرفة و الخبر بواجهة مبتسمة تدخل القلب و تلامس الروح ، صنعت فنجاني و عدت أدراجي إلى مكتبي أرتشف الشاي وأبحث عن آخر جملة قرأتها و في أي الفقرات.
هذه الكيانات الصغيرة التي تستحوذ على اهتمامنا و تأسرنا كما لو كنا منومين مغناطيسيا فلا نستطيع إلا أن نعود إليها رغما عنا، نعود يغذي ذلك اللهفة تارة و الفضول تارة أخرى، نصنع علاقة خاصة مع مجموعة الشخصيات التي تعيش بين الأسطر فوق هذه المساحات البيضاء، يدفعنا الحنين لمتابعة أخبارها و معرفة ما آلت إليه الأحداث في الفقرة تلو الفقرة ، نشعر معها إن كانت في مأزق أو حالة عاطفية حتى أننا نسقط معها في حفرتها و نعاني ما تعانيه من حزن; شوق أو غضب ، حتى إذا طُويت الصفحة الأخيرة من الكتاب أغرقنا الحنين.
هذه الحكايات التي تسردها تلك الكائنات تشكل حيواتنا ، تغيّر فينا شيئا و تجعلنا أكثر رقة و فهما للحياة و تكون لنا نماذج نحاول أن نحذو حذوها، نسير في دروبها حاملين رسائلها و ما تبشر به.
حتى نتناغم مع السرد نحتاج لأن نروّض النفس لنسير مع إيقاع الأحداث ونقترب من شخصياته فلا يلهينا صوت أو حركة ، هذه الوحوش الصغيرة تحتاج منا أن نروّضها لنحولها إلى كائنات أليفة نستطيع التعايش مع ما تسرده علينا من حضارة ، ترى من يمسك بزمام الآخر هي أم نحن ! إنها الكتب يا سادة تواجه التحدي في أن تستمر أو تسقط في هوّة النسيان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى