تذكير #الغافلين بطول الأمل وبهجوم الأجل
وعليه فإنه ومع واجب الاهتمام بهذا كله، لكن علينا أن لا يشغلنا هذا عن حقيقة أننا في كل يوم يُنتقص من أعمارنا ونحن نتعرض لهجوم من الأجل يسلب منا بعضنا “الأيام والشهور والسنوات” ويمكن أن يسلبنا كلنا “الموت”، قال الحسن البصري: “يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك”. وقد قال ذلك الرجل الصالح في موعظته: “إلى كم تماطلون بالعمل وتطمعون في بلوغ الأمل، وتغترون بمنحة المُهل، ولا تذكرون هجوم الأجل. ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم فللخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتاب مدّخر ليوم الحساب”. وما أصدق ما قاله الشاعر:
ولو أنّا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعدها عن كل شيء
المعصية واللذة الموهومة
إن مثل من يرتكب المعصية ويقع في الحرام ويوهم نفسه بلذة تدغدغ نزوات نفسه الأمّارة بالسوء، كمثل من يتعاطى جرعات المخدر تجعله يحلق في أوهام لذة لن توصله إلا إلى مستنقع الضياع.
نعم هكذا هي المعصية عواقبها سيئة وآثارها قبيحة، رغم أن لها في أول شأنها لذة موهومة، خاصة وأن الله سبحانه قد لا يعاقب عليها مباشرة، فإن صاحبها يراها كلها نفعًا ولا يدفع مقابلها أي ثمن وهذا هو الجهل بعينه، وقد أشار إلى ذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: “لا يغرّنكم قول الله عز وجل: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا} آية 160 سورة الأنعام. فإن السيئة تتبعها عشر خصال مذمومة:
– إذا أذنب العبد ذنبًا فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
– إنه يكون قد فرّح إبليس لعنة الله عليه.
– إنه تباعد عن الجنة.
– إنه تقرّب من النار.
– إنه قد آذى أحب الأشياء إليه وهي نفسه.
– إنه قد نجّس نفسه وقد كان طاهرًا.
– إنه قد آذى الحفظة، الكرام البررة.
– إنه قد أحزن النبي ﷺ في قبره.
– إنه قد أشهد السمٰوات والأرضين وكل الخلائق، إنه قد عصى الله تعالى.
– إنه قد خان جميع الآدميين وعصى رب العالمين.
فيا أيها المسلم بل يا أيها الإنسان، إن جريك ولهثك خلف لذة موهومة هو مثل الجري خلف سراب يحسبه الظمآن ماء، فستظل تجري وتجري ولن يوقفك إلا الموت والهلاك دون أن تدرك الماء، “فيا من يسير بعمره وقد تعدى الحدود، لقد أسمعتك المواعظ من إرشادها نصحًا وأخبرك الشيب أنك بالموت تُقصد، وناداك لسان الاعتبار أن أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه”.
فليس لك أيها المسلم إلا الرجوع والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والأوزار، وأن تقول مع من قال:
أَتَيتُكَ راجِيًا يا ذا الجَلالِ فَفَرِّج ما تَرى مِن سوءِ حالي
عَصَيتُكَ سَيِّدي وَيلي بِجَهلي وَعَيبُ الذَنبِ لَم يَخطُر بِبالي
إِلى مَن يَشتَكي المَملوكُ إِلّا إِلى مَولاهُ يا مَولى المَوالي
فويلي لَيتَ أُمّي لَم تَلِدني وَلَم أُغضِبكَ في ظُلمِ اللَيالي
وها أنا ذا عُبَيْدك عبد سوء ببابك واقف يا ذا الجلال
نبكي وحق لنا البكاء
إنها الغفلة التي قد تلازم أحدنا سنين طوالًا، ولعلها تلازم كثيرين طول أعمارهم فلا ينتبهون إلا لمّا يموتون ولسان حالهم يقولون ساعتها {رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} آية 100-99 سورة المؤمنون، {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} آية 10 سورة المنافقون. ولكن أنّى لأحدنا أن يعود إلى الدنيا ليصلح ما أفسد، وقد قيل: “إلى كم هذه الغفلة ونحن مطالبون بالتوبة من غير مهلة، فأصلحوا من أعمالكم ما قد فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب وأنتم تلعبون بالأجل، وبين أيديكم يوم الحساب”. وقد قيل كذلك: “آهٍ من ثقل الحمل وسوء الرفيق، آهٍ من قلة الزاد وبُعد الطريق”.
فإلى متى سيقال عنك مفتون ومغرور، يا مسكين، فلقد انقضت الأشهر وأنت تعد الشهور، أتعرف هل أنت مقبول أم مطرود، هل تعرف أنك من أصحاب الجحيم أم أنك من أهل جنة النعيم. وما أجمل ما خاطبك به الشاعر مذكرًا ومنبهًا من غفلتك:
مالي أراك على الذنوب مواظبا أأخذت من سوء الحساب أمانا
لا تغفلنّ كأن يومك قد أتى ولعل عمرك قد دنا أو حانا
ومضى الحبيب لحفر قبره مسرعا وأتى الصديق فأنذر الجيرانا
وأتوا بغسّال وجاؤوا نحوه وبدا بغسلك ميتا عريانا
فغسلت ثم كسيت ثوبا للبلى ودعوا لحمل سريرك الإخوانا
وأتاك أهلك للوداع فودّعوا وجرت عليك دموعهم غدرانا
فخف الإله فإنه من خافه سكن الجنان مجاورا رضوانا
جنات عدن لا يبيد نعيمها أبدًا يخالط روحه ريحانا
ولمن عصى نار يقال لها لظى تشوي الوجوه وتحرق الأبدانا
نبكي وحق لنا البكا يا قومنا كي لا يؤاخذنا بما قد كانا
بحر الدموع
قال ابن الجوزي في كتابه الرائع والنافع “بحر الدموع”، قال النبي ﷺ: “إذا كان ابن آدم في سياق الموت بعث الله إليه خمسة من الملائكة:
– أما الملك الأول فيأتيه وروحه قد بلغت الحلقوم {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} آية 83-84 سورة الواقعة. يا ابن آدم أين بدنك القوي ما أضعفه اليوم، أين لسانك الفصيح ما أسكته اليوم، أين أهلك وقرابتك ما أوحشهم عنك اليوم.
– ويأتيه الملك الثاني إذا قبض روحه ونشر الكفن عليه فيناديه: “أين ما أعددت من الغنى للفقر، أين ما أعددت من العمران للخراب، أين ما أعددت من الأنس للوحشة”.
– ويأتيه الملك الثالث إذا حُمل على الأعناق فيناديه: “يا ابن آدم اليوم تسافر سفرًا بعيدًا لم تسافر أبعد منه قط، اليوم تزور قومًا لم تزرهم قبل هذا قط، اليوم تدخل مدخلًا لم تدخل أضيق منه قط”.
– ويأتيه الملك الرابع إذا لحد في قبره فيناديه: “يا ابن آدم بالأمس كنت على ظهرها ماشيًا واليوم صرت في بطنها مضطجعًا، بالأمس كنت على ظهرها ضاحكًا واليوم صرت في بطنها باكيًا، بالأمس كنت على ظهرها مذنبًا واليوم صرت في بطنها نادمًا”.
– ويأتيه الملك الخامس إذا سوّي عليه التراب وانصرف عنه الأهل والجيران والأصحاب، فيناديه فيقول: “يا ابن آدم دفنوك وتركوك ولو ظلّوا معك ما نفعوك، يا ابن آدم جمعت المال وتركته لغيرك، اليوم تصير إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية”.
اللهم حّرم شيبتي على النار
وماذا بعد البرزخ إلا أن يبعث الله من في القبور، وكل ابن آدم بين يدي خالقه محشور، وليس مع أحدنا إلا صحيفة أعماله قد طويت وعلّقت في عنقه، قال الحسن البصري رحمه الله:” هبطت صحيفتك ووكّل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك، فالذي عن يمينك يكتب حسناتك والذي عن يسارك يكتب سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا فارقت الدنيا طويت صحيفتك وعلقت في عنقك، فإذا كان يوم القيامة أخرجت وقيل لك: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} آية 14 سورة الإسراء.
وبينما أنت وأنا في سكرة الغفلة، وإذا بالشيب يغزو رؤوسنا ويجعلها بيضاء، وإذا بهجوم الأجل يطرق بابنا فما أحوجنا عندها بل إنه لزام علينا أن نصطلح مع الله، ولعل لصاحب الشيب إذا تاب صادقًا مكانة عند الله تعالى ومقامًا يكون سببًا في مغفرة الله وشفاعة الشيب له، وقد روي أن عجوزًا قد مات وكان مفرطًا مقصرًا فرؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: قال لي ربي لولا أنك شيخ لعذبتك.
لما أتونا والشيب شافعهم وقد توالى عليهم الخجل
قلنا لسود الصحائف انقلبي بيضا فإن الشيوخ قد قبلوا
وكان أحد الصالحين يناجي ربه وقد غزاه الشيب فيقول:
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرمًا قد شبت في الرق فاعتقني من النار
وكان مالك بن دينار يناجي ربه مستشفعًا بشيبته يقول: “الٰهي ومالك عنقي، يا صاحب نجواي ويا سامع شكواي، سبقت بالقول تفضلًا وتكرمًا فقلت:” يحبهم ويحبونه” وهل يعذب حبيب حبيبه في النار؟ فيا مولاي ويا حبيبي حرّم شيبتي على النار، الٰهي ومولاي وقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين مالك وأي الدارين دار مالك؟”.
اللهم حرّم شيبتي على النار، وأدخلني الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.