#تجديد_الخطاب_الديني رؤية في #الواقع_الإسلامي_المعاصر
عبدالبصير عيد
كيف نعيش كمسلمين في مجتمع كافر؟
إن هذا السؤال يقوم على تصنيف هذا العالم إلى اتجاهين متعاكسين، يظهر فيهما التضارب في المفهوم والفكرة، فهل حقاً نعيش في #مجتمعات إما #مسلمة أو كافرة؟ إن هذا السؤال لم يُطرح لأن التصنيف السابق هو الحق المنير عند بعضهم وأن خلافه الضلال المبين! إن استعمال هذا التصنيف لتحديد طبيعة التعامل مع الناس فيه إساءة فهم لحقيقة الدعوة الربانية التي جاء بها الإسلام لجميع الخلق على هذه البسيطة.
فما هي حقيقة #الدعوة_الإسلامية؟ لم يأت الإسلام لأقوام دون آخرين ولم ينزل في وقتٍ دون آخر، وبذلك يحمل الإسلام سمةً مختلفةً عن باقي الرسالات السماوية وهي “الشمولية”، فهي ديانة شاملة للزمان والمكان، وبذلك ليست حكراً لطبقة مجتمعية دون أخرى ولا لبقعة جغرافية بحدودٍ وهميةٍ أو حقيقيةٍ.
يتجاوز الإسلام حدود العقيدة والعبادات إلى السلوك والتزكيّة الخلقيّة، وهو مزيج من عناصر مختلفة تتناسب مع طبيعتنا البشرية. فالإسلام فلسفة حياة شاملة وكاملة، أساسها أن نكون “بشراً” متسامحين ومتعايشين فيما بيننا، نبني علاقاتنا على الحب والمودة المؤطرة بالأخلاق الحسنة وقيم التسامح دون التنازل عن الثوابت.
إن السؤال الذي يجب أن يَطرحهُ الكثيرُ من الدعاة في هذا العصر هو؛ كيف نعيش كمسلمين في مجتمعات متنوعة؟ فالواقع الذي يحتاج منا لفهمه يكمن في هذا التنوع الذي يعيش فيه المسلم المعاصر في مجتمعات متعددة المعتقدات، تتجاوز حدود الأديان والمذاهب، يجد فيه المسلم نفسه مضطراً للتعامل مع ثقافات مختلفة ويكافح من أجل الحفاظ على معتقده دون أن يقع فريسة سهلة للتصنيف تحت دعاوى التعصب الديني والأصولية والرجعية الناجمة عن مصطلح “الإسلاموفوبيا” الذي يروج له الغرب ويتخذه ذريعة للنيل من الإسلام والمسلمين وحصر الدين بالمساجد فقط.
إن من أهم مقاصد الشريعة التي جاء بها الإسلام هي حفظ الدين. فالمسلم يجد نفسه قد أضاع هذه المقاصد بسبب إساءة فهم حقيقة رسالة الإسلام. لذلك يقال: “الجاهل عدو نفسه”.
إن المصطلح المنتشر مؤخراً والمعروف بـ “تجديد الخطاب الديني” يتم التعامل معه بطريقتين متنافرتين. فمن يرفضهُ يرى المصطلح جاء لتمييع الدين، ويعده دعوة للانفتاح الزائد والزائف الذي يقوم على استحلال المحرمات ونشر الفحش وإبعاد المسلمين عن الشريعة وأصول الدين وأن المصطلح صُدِّر لنا.
ويرى آخرون أن التجديد هو مطلب مهم لمواكبة الحداثة والانفتاح نحو الغرب والشرق، وأن الدين أصبح عبئاً على المجتمعات المسلمة وغيرها، وأن الكثير من المسائل الدينية والمعلومة من الدين بالضرورة يجب التخلص منها لأنها تدعوا إلى الرجعية والتخلف.
وهنا يأتي التوضيح، هل نحتاج حقاً إلى “تجديد الخطاب الديني”؟ المشكلة الحقيقية أننا لا ننظر إلى الأمور بمنظور وسطي، فكثيراً ما يضيع الحق بين الإفراط والتفريط. قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) 143 سورة البقرة. الوسطية في التعامل مع الكثير من القضايا أدعى لإحقاق الحق وتوسيع المدارك بعيداً عن الغلو والتشدد والتعصب المذهبي والديني بشكل عام. لماذا يقبل البعضُ دخول المجددين كل مئة عام ولا يقبلون أن يتم معالجة الكثير من المسائل الدينية المعاصرة.
إن النظرة القاصرة إلى رسالة الإسلام وتحجيمها بجماعة دون أخرى ومذهب دون آخر جعل من المرونة التي يتميز بها الدين الإسلامي سبباً لدى الكثير من الناس للانسلاخ عن روح الإسلام وجوهر دعوة الأنبياء -عليهم السلام-، ففي الحديث الشريف عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وشيء مِنَ الدُّلْجَةِ ) متفق عليه.
من المؤسف جداً ألا يتقبل المصارحة كثيرٌ من المتدينين، وأعني هنا بالمتدينين، المتزودين بالعلم الشرعي ويُحسَبُونَ دعاةً وفقهاءً، فقد كانت البوصلة متجهة بشكل كبير نحو تصنيف الناس إلى ضال ومبتدع وفاسق وفاجر وكافر ومنحرف وغيرها من المسميات التي جعلتْ من وظيفة المتدين هي الحُكم على الناس، ومن المؤسف أن آثار هذا التصنيف عايشناها باستحلال دماء المسلمين وغيرهم بسبب فهم سقيم لأساسيات ومقاصد الدِّين الإسلامي الحنيف.
إن تجديد الخطاب الدِّيني ليس مكانه أماكن العبادة والمعاهد الشَّرعية ولا تقتصر على فئة دون أخرى، وهي ليست مسؤوليةَ الدعاةِ والفقهاءِ بل هي مسؤوليةٌ مجتمعيةٌ تبدأُ من الحكوماتِ وحتى الأفرادِ في المجتمعِ الواحدِ. ولا يخفى على الجميع الدَّور الكبير الَّذي يقع على وزارة التربية والتعليم في وضع مناهج تعكسُ النَّظرة السَّليمة للإسلام من خلال زرع القيم الإسلامية والفَهم الشُّموليِّ والمتوازن لكثير من محاور الإسلام الأساسية ويقع على عاتقها تجنب الخُوضِ في القضايا الشائكة والَّتي يمكن أن تُصنف ضِمنَ الشَّبهات وأيضاً المسائل الَّتي تفُوق قُدرة التَّلاميذ في المدارس على فَهمها والخوض فيها في مرحلة التأسيس والبناء. فالطالب في مرحلة الدراسة يحتاج أن يفهم كيف يكون مسلماً قادراً على التعامل مع الأطياف المختلفة.
فقد قال تبارك وتعالى في كتابه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) سورة الحجرات.
وقد ذكر البخاري في صحيحه أن علي رضي الله عنه قال: ” حدثوا النَّاس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله”.
وأخرج الأمام مسلم عن ابن مسعود قوله: (ما أنت مُحدثاً قوماً حديثاً لا تبلغهُ عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه).
فهناك مسؤولية كبيرة على المُعلمين في المَدارس بتجنيب التلاميذ الخوض في الكثير من المسائل المعاصرة الشائكة والتي يعتبر الطَّالب بغنى عن معرفتها في الوقت الرَّاهن، وهي ليست من أولوياته في هذه المرحلة.
إن خوض طلبة العلم الشَّرعي وخاصة المبتدئين في مسائل مثل الكُفر والإيمان أدى لظهور المتشددين والمتعصبين وجماعات مثل داعش وغيرها وكل ذلك بسبب تحيدهم عن أساسيات وجوهر دعوة الإسلام، وهنا يجب على العلماء والدعاة طبع تلاميذهم بالطابع الإسلامي أخلاق حسنة، يعرفون آداب الاختلاف ويفهمون الواقع ويدركون المغزى الحقيقي الذي جاء به الإسلام كرسالة سماوية شاملة ومتوازنة.
فالإسلام جاء للتوحيد لا التفريق وجاء لإخراج الناس من الظُّلمات إلى النور ومن الجَهل إلى العِلم والمعرِفة ونبذ البغضاء والسعي نحو التسامح والإخاء، والتواضع ونبذ التكبر وبناء المجتمع ونبذ السلوكيات الهدامة، وجاء ببناء الفرد على أسسٍ واضحة وتعزيز الفطرة السليمة ونبذ التعصب والجمود، وسعى نحو النظر إلى الحياة بمنظور كوني شامل.
الإسلام دين عظيم وهو قادر على توصيل رسالته للشعوب مهما اختلفت الديانات والمذاهب والمنابت والأصول، ولكننا نحتاج إلى تظافر الجهود لإيصال هذه الرسالة بطريقة سليمة وواعية ومتجددة.