#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 23 من سورة الأحزاب: “مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.
أوّل المفسرون القدامى هذه الآية على أنها نزلت في “أنس بن النضر” والصحابة الكرام الذين استشهدوا في أحد، لكنها وإن كانت نزلت في حالة محددة، لكن آيات القرآن الكريم تحمل العمومية والشمولية، كونها نزلت لتبقى مرجعا ودستورا للمؤمنين الى آخر الزمان، ليجدوا فيها الإجابة على كل ما يواجههم، والى يوم الدين.
المؤمن دائما صادق مع الله، فهو قد باع نفسه وماله لله طلبا لرضاه ونيل ثوابه: ” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ” [التوبة:111]، لذلك يعتبر أن نفسه هي لله، يسترجعها حين يشاء، ويقر بذلك إن أصابه مصاب، فهو لا يعتبره خسارة، بل هو مجرد تسلم المشتري الذي هو الله تعالى لما اشتراه، فيقول: “الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” [البقرة:156].
هذا البيع هو العهد الثاني للمؤمن مع الله، بعد أن كان عاهده عند خلق النفوس على أن يؤمن به: “وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا” [الأعراف:172]، ومن مقتضيات الإيمان الطاعة، لذلك فعندما عرض الله عليهم تجارة تنجيهم من عذاب أليم جراء معصيته ومحاربة منهجه، استجابوا فشروا أنفسهم لله ابتغاء مرضاته، فربح بيعهم.
لقد بشرنا تعالى بأن المؤمنين المقربين هم من صدقوا عهدهم مع الله، وهم ليسوا أهل الدعوة الأولى فقط على عظم تضحياتهم، بل هم في كل العصور والأزمان: “وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ .أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ” [الواقعة:10-14]، فالله تعالى أراد أن يعلمنا أن السابقين هنا لا تعني الأقدم، بل من يسبقون غيرهم الى الجنة، بدليل شموله الأولين والآخرين بهذا السبق.
من هؤلاء (الآخرين) سأورد سيرة مثال معاصر منهم، هو الشهيد بإذن الله: د. ابراهيم مقادمه، وهو طبيب أسنان ولد في القطاع عام 1950، ولتفوقه في الدراسة الثانوية، قُبِل في كلية طب أسنان مصرية، وهنالك بدأ تفتحه على فكر سيد قطب، وعاد بعد تخرجه الى بلده ليعمل في مستشفى الشفاء، لكن ذلك لم يحل دون مشاركته في همِّ وطنه، وكان إيمانه دافعا لفكره الجهــادي، فانضم الى الشيخ أحمد ياسين، وساهم بتأسيس نواة الجهاز العسكري تحت مسمى “مجد”، ولما ظهر نشاطه الوطني اعتقلته قوات الاحتلال عام 1984 وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، أثناء اعتقاله في سجن النقب أسس لجامعة “يوسف” للمعتقلين، ونظم مساقات تعليمية وتدريبية، استطاع بها استثمار وقت الفراغ الكبير لهم، مما رفد الحركة بنوعيات مقاتلين مثقفة، وقياديين متقدمين.
وبعد الافراج عنه عام 1992، أبعد مع مجموعة كبيرة من المناضلين الى “مرج الزهور” في لبنان، وهنالك تولى قيادة كتائب القسـ ـام، ولتعدد مواهبه ورغم صعوبة المرحلة فقد تمكن من تحقيق تطور نوعي في إعداد وأداء الكتائب، وبعد عودته إثر تسلم سلطة أوسلو مقاليد الأمور، أبلغها المنسق الأمني معها “جدعون عيزرا” نائب رئيس الشاباك: “أن المقادمه ليس مجرد قيادي في تنظيم، بل هو مدرسة فكرية كاملة غذت اندفاع الفلسـ ـطينيين نحو مواصلة القتال”، فاعتقلته لمدة ثلاث سنوات، وبعدها طردته من عمله في وزارة الصحة.
بعد عجز السلطة عن محاصرة نشاطاته، قرر العدو اغتياله، ولحذره لم يتمكن مخبرو السلطة من رصده الا بعد أربع سنوات من المتابعة، ولحقد العدو عليه أطلقت طائرة أباتشي على السيارة التي كان يستقلها عام 2003، خمسة صواريخ دفعة واحدة.
وتخليدا لذكراه أطلقت الحركة اسمه على جيل من الصواريخ بعيدة المدى هي إم-75 وإم-90 استهدفت بها تل أبيب.
هذا واحد من أبناء الأمة الصادقين لعهدهم، ولا شك أن هنالك المئات من أمثاله ممن يتقصد الإعلام المطبع الممالئ للأعداء التعمية عنهم، لكن المحزن أن كل واحد من هؤلاء يقابله العشرات ممن خذلوها أو خانوا العهد، فوالوا الأعداء وغدروا بالصادقين.
ولا بد أن الله تعالى يعلم في سابق علمه كم ستكون نسبة الصادقين ضئيلة، لذلك قال: “وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ”.