
#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 151 من سورة الأنعام: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”.
هذه الآية من الآيات المحكمات، فهي تتضمن حكما شرعيا ثابتا، لا يتغير بتغير الأماكن والأزمنة، ومتعلقة بما حرمه الله من سلوكات وأعمال، تحريما قاطعا، واذا أضفنا اليها الآية الثالثة من سورة المائدة: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ” التي تتناول المحرمات من الطعام، تكون قائمة الحرام التي على المؤمن الالتزام التام بها قد استكملت، وبما أن القاعدة الفقهية تقول أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حرمه الله، لذا فكل ما وراء ذلك حل له.
غني عن التذكير بأن الربا والقمار والزنا وقول الزور والتولي يوم الزحف ..الخ من الكبائر هي تفريعات من الحكم العام: “وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ”.
أساس التشريعات الإلهية هو بيان الحلال والحرام، ولذلك أوردها الله تعالى بنصوص قاطعة واضحة لا تحتمل التأويل ولا يلزمها الاستنتاج، حتى لا يحرفها الهوى والميل، سواء من كانت نفوسهم تميل الى التراخي أو الى التشدد.
مع ذلك رأينا على مدار العصور انحرافات في التطبيق، فلجأ المحرفون إما الى تفسير النص بمعان لم يحتملها، أو بحثوا في الروايات عن أحاديث نسبت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سندها تقديري بشري توافق فيها المصححون على عدل الرواة، ولم يناقشوا مدى تعارضها مع النص الشرعي أو تعديها لمعانيه.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها لجوء المتراخين الى محاولة إخراج التعاملات البنكية من دائرة الربا، بتفسير زائغ وهو أن الربا هو ما يكون أضعافا مضاعفة، وأما الفائدة البنكية فهي نسبة مئوية لا تصل الى العشر.
فيما استعان سلاطين الحكم العضوض بشيوخ اشتروا دنياهم بآخرتهم، بحثوا لهم عن تبرير شرعي لقتل معارضيهم، ولما أن قتل النفس محرم الا بالحق، وهذا الحق منصوص عليه باقتصاره على حالتين فقط هما القصاص من القاتل أو الإفساد في الأرض، وليس من بينها معارضة الحاكم، ولا الكفر، فجاءوا بحكم قتل المرتد استنادا الى روايات لأحاديث نسبت الى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه معروف أن المشرع هو الله فقط، والسنة هي تطبيق وتفصيل وتخصيص للتشريعات الواردة في القرآن، ولا يمكنها أن تأتي بتشريع ليس له أصل في كتاب الله، والذي حدد عقوبة المرتد أنها عائدة الى الله الذي وحده يعلم ما في النفوس.
أما تحريف المتشددين فهو أكثر بكثير من جهود المتراخين، فهم بطبعهم المتشكك في الآخر، يريدون أحكاما أقسى وتغطي مساحة أوسع، لاعتقادهم أن ذلك يشكم النفوس ويشد من أزرالدين.
هؤلاء ذنبهم عند الله أشد، لأنهم يزاودون عليه تعالى، ويعتقدون أنهم أعرف منه بعباده وبما يصلحهم، لذلك استنكر أفعالهم: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ” [الأعراف:32].
في واقعنا المعاصر، نرى كثيرا من هؤلاء يحرمون ما أحله الله، وبلا اعتماد على نص شرعي، فتجد منهم من يحرم كل الفنون الجميلة كالموسيقى والغناء والرسم والتمثيل، بحجة أنها تدعو الى الفسوق وممارسة الرذيلة، مع أن عمل يقوم به الانسان يمكن ان يستغله من يرغب في اشاعة الفاحشة، فالأمر عائد الى النية وليس الى طبيعة العمل.
إن الفن موهبة من الله منحها لبعض الناس، وتذوق هذا الفن فطرة فطر عليها كل البشر، وهي من الزينة التي أخرج لعباده.
فلوحة جميلة تمثل منظرا من جميل صنع الخالق، هل تؤدي الى الفسوق أم الإيمان بكمال الخلق؟.
وغناء من أنعم الله عليه بصوت جميل كالنقشبندي، هل يؤدي الى الفسوق أم الى تسبيح الله على هذا الجمال؟.
لقد حدد الله ما حرمه بدقة، لأن من أكثر ما يغضبه تحريم ما أحل أو تحليل ما حرم.

