
#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في سورة الماعون: “أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ . فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ . فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ .ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ . ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ .وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ “.
في هذه السورة يعرّف الله تعالى رسول الكريم بصفات من يكذبون برسالته وينبرون لعدائه، وهم عموما ممن يفتقرون الى قيم الخير والإحسان الى الغير، لذا فهذه هي المواصفة التي تسم كل معادي منهج الله، فهو ما عاداه الا لأنه يتناقض مع نزواته الشخصية ومصالحه الأنانية، وليس لأنه يتناقض مع المنطق أو مع المبادئ السامية التي يحترمها.
لكنه تعالى قسم هؤلاء الى فئتين: الأولى من هم بطبعهم أنانيون لا يحبون العطاء ولا عمل الخير ولا مساعدة المحتاجين، بل يستقوون على الضعفاء كاليتيم، وليس من شيمهم تقديم الخير للمحتاجين.
أما الفئة الثانية فهم ممن يظهرون الإيمان ويؤدون فرائض الدين، والتي أبرزها وأكثرها إظهارا لاتباع المرء الإسلام هي الصلاة، لكنهم لا يؤدونها بقناعة بها وفهما لمناطاتها، بل مراءاة لكي يعرف الناس أنهم مسلمون ملتزمون بالدين، لكن ما يكشف حقيقة إيمانهم هو وقوفهم ضد الإحسان الى الغير، ولما كان أساس الرزق هو الطعام لأنه الحاجة الأساسية اللازمة للحياة، لذا عبر الله عن احتياجات الانسان المتعددة بالماعون من باب التعبيرعن الكل بالجزء.
هذا هو المعنى المباشر للألفاظ، لكن المعاني الكامنة فيها أوسع، فهي تبين مناطات الدين، ولماذا أنزله الله للبشر، وهنا تظهر حكمة الله من ايجاد تباينات في الغنى والفقر بين البشر، فلم يجعلهم كالكائنات الحية الأخرى، كل فرد منها يحصل قوته بذاته ومن غير حاجة الى الآخر، وهذا من باب تكريم الله للجنس البشري فقد أوجد فيه فطرة حب تقديم العون للأخر ونفع الغير، ولأجل ذلك أوجد التباين في قدرات البشر على كسب أقواتهم، وتحصيل ما كتبه الله لهم من الرزق، حتى يبقى هنالك حاجة من البعض الى البعض الآخر، إنه لاستثارة قيم الخير التي اودعها الله في النفوس، فذلك هو مبرر التعاون بين الناس، فهو يقربهم الى بعضهم، فعطاء الغني الى المحرومين يزيل الحسد من نفوسهم، كما يشعر المعطي بالرضا عن ذاته، التي تغلبت على الخوف من الفقر، وتجاوزت أنانية الشح والامساك عن الانفاق مخافة الفقر، والشكر للرزاق الذي أكرمه فرزقه بما يزيد عن احتياجه فأعطى وأصبحت يده هي العليا.
واضح أن ذلك يحقق أفضل النتائج في تحقيق التعاون والتراحم بين البشر، وبالتالي التقارب بين الطبقات وليس تصارعها، والذي ينتج النزاعات والصراعات، ويقطع أسس التعاون الذي لأجل تمتين عراه أوجد الله التباين في القدرات والامكانيات، فخلق الله الانسان مدنيا بطبعه، ليبقى الأفراد بعضهم بحاجة لبعض، فلا يستغنون عن خبرات وقدرات بعضهم بعضا: “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا” [الزخرف:32].
من المهم في هذه السورة ملاحظة أن الله تعالى ذكر الصلاة من دون باقي العبادات كسمة دالة على الإيمان، مما يدلنا على أهميتها وجلال قدرها، يؤكد ذلك أنه أوصى كل أنبيائه بها تخصيصا، فأول ما أوصى به موسى: “إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي” [طه:14]، وكذلك أوصى عيسى وهو في المهد “وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا” [مريم:31]، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أعطاه الكوثرومقابل ذلك فقد أمره: “فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ” [الكوثر:2]، كما أنه تعالى في سورة المؤمنين، وصف المؤمنين المفلحين بعدة صفات بارزة، بدأها بقوله تعالى: “الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ”، وختمها بـ: “وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ”.
وأخيرا لا ننسى فضل الله تعالى ورحمته بعباده المصلين، فلم يقل (في صلاتهم ساهون)، بل “عَن صَلَاتِهِمۡ”، لأن الانسان مهما كان مرتقيا في ايمانه عرضة للسهو والشرود في أثناء الصلاة، ولا يمكنه ضبط انخراطه التام فيها مهما حرص على ذلك، لكنه عن أدائها لا يسهو ولا يتوانى.

