تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 110 من سورة الإسراء: “قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ “.
بدأت الآية بـ (قل)، مما يعني الخطاب المباشر من الله تعالى لرسوله الكريم، لأجل تبليغ مضمونه للناس جميعا، ونفهم منه أن الله يسمع الدعاء، اذا ناداه عبده بأي اسم من اسمائه الحسنى.
المتأمل في هذه الآية، أول ما سيثير تساؤله: لماذا اختار الله تعالى اسم (الرحمن )، من بين كل أسمائه التسعة والتسعين؟، فما هي خصوصية هذا الإسم؟.
بداية فإسم (الله) هو الاسم العام الجامع لكل تلك الصفات، والدال على الألوهية والربوبية.
أما (الرحمن) فهي صيغة مبالغة لصفة الرحمة التي تعني الرأفة والعناية والرعاية، وهي لجميع الخلائق بإيجادهم وتربيتهم ورزقهم وإمدادهم بالنعم والعطايا وتصحيح أبدانهم وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم ومساكنهم ولباسهم ونومهم، وحركاتهم وسكناتهم وغير ذلك من النعم التي لاتعد ولا تحصى، فقال تعالى: “رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا”[غافر:7].
وهنالك صفة أخرى تماثلها معنى وهي (الرحيم)، لكنها رحمة خاصة بالمؤمنين، فيرحمهم الله عز وجل في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم ويثبتهم عليه ويدافع عنهم وينصرهم على الكافرين ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيما أعطاهم، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب، ويغفر لهم ذنوبهم ويكفرها بالمصائب، ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم، والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخولهم الجنة ونجاتهم من عذابه ونقمته، وهذه الرحمة هي التي جاء ذكرها في قوله تعالى: “وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا”[الأحزاب: 43].
في هذه الآية يرشدنا الله تعالى الى طريقين للاتصال به، مخاطبته بصفته الإله الأعظم مالك كل شيء، ويكون المبتغى خوفا وطمعا، أو مخاطبته بصفة الرحمن حبا وودا.
الطريق الأول عام للجميع، فهي مبنية على التكاليف والطاعات والانصياع لأوامر الله، لكن الطريق الثاني خاص للمقربين منه، ومبني على المحبة له والتقرب منه.
لذلك رأينا أن مشاهد يوم القيامة المهيبة دائما ما يقرنها الله تعالى بإسمه (الرحمن)، كون المرء في ذلك اليوم، لهول المشهد، يفقد كل صلة له وينسى كل رابط يربطه بغيره، فحتى أقوى العواطف البشرية وهي صلة الوالدة برضيعها، تتلاشى: “يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ” [الحج:2]، وتتقطع الأواصر اذ لا تتوقف عند عدم تعرف المرء على أقرب الناس اليه، بل يفر منهم لأن لكل منهم شأن نفسه يغنيه عن الاطمئنان على غيره.
في ذلك اليوم العصيب، لا يبقى للمرء ملاذ الا رحمة الله، لذلك يقول تعالى واصفا ذاته العلية في سورة الفاتحة: “الرحمن الرحيم مالك يوم الدين”، فيقدم صفات الرحمة على صفات الملك والجبروت، ليطمئن قلوب عباده الذين آمنوا به في حياتهم الدنيا واتبعوا منهجه (الصراط المستقيم).
كما يقول تعالى في وصف أحداثه: “وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا” [طه:108] ، كما يقول في الآية التي تليها: “يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا”، ويقول: “يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا ” [النبأ:38].
ذلك ليعلم الناس أنه لا يتبقى لهم غير رحمة الله، والتي طمأنهم أن لا يقنطوا من نوالها، فهي وسعت كل شيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى