تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 187 من سورة آل عمران: “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ “.
الشهيد لغة مشتقة من الفعل الثلاثي: شهد، لذلك فهي تعني الرؤية والمعاينة الصادقة بسبب حضور الحدث ومعايشته، من هنا جاءت شهادة شهود العيان، فهي المرجع الصادق الذي يؤخذ به لذلك الحدث.
لكن هذه اللفظة اصطلاحا استعملت من قبل الخالق لوصف حالة من يقتل في سبيله، فهو لا يموت كما يموت غيره، بل هي لفظة تكريم وعلو شأن، بدلالة قوله نعالى “وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ” [البقرة:154]، وواضح من صيغة النهي عن اعتبار من قتل في سبيل الله كالأموات الآخرين، أنها لنفي موته، بل هو حي، ولكن طبيعة هذه الحياة خارج مدركاتنا، وللتأكيد على حياته يقول تعالى في موضع آخر: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” [آل عمران:169]، فجاء تعالى بعبارة يرزقون ليؤكد بشكل قاطع على أنهم أحياء حقيقة، لأن الرزق لا يكون الا للحي.
ما يستوقف المرء هو التكريم الذي قدمه الله لمن يضحي بحياته فيفقد متع الحياة ومباهجها في سبيل الله فتجسد هذا التكريم بتسمية الشهيد، فلا بد أن هذه الحالة أرقى من حالة الحياة المعروفة لنا.
لو أخذنا معناها بما ذهب اليه المفسرون الأوائل، بأن هؤلاء سيكونون شهودا على الناس يوم القيامة، لما كان ذلك مقنعا، فهذه المرتبة ينالها المسلمون الصادقون في إيمانهم، ومن غير أن يضحوا بحياتهم، بل لمجرد أدائهم لأمانة التبليغ لغيرهم: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة:143].
لذا لا بد أنها مرتبة متميزة عن باقي المسلمين.
لذلك فقد يكون الله تعالى (والله أعلم) قد عنى بهذه الشهادة رؤيتهم ومعاينتهم الحسية لما يحدث في الدنيا بعد مغادرتهم إياها، فالميت غادرها وانتقل الى عالم البرزخ، الذي هو حياة وسيطة قبل الحساب بين حياته الدنيا وبين الحياة الأخرى، فمن الممكن أن حياة الشهداء تكون بصورة مختلفة لا نعلمها، وفيها يمكنه أن يشهد ما يجري في الدنيا بعد موته، فيرى كيف رفع الله ذكره بين الناس، وكيف أن تضحيته بحياته وموته لم تمحى وتنسى كما ينسى الذين ماتوا، بل ظل الناس يذكرونه بأكثر مما يتذكرون الأحياء، ويجلونه بأعظم ما يجلون به العظماء.
ومن ناحية أخرى يشهد ما أثمر به جهاده من دحر للأعداء ونصر للأمة وإعلاء شأنها، ومن خسران لمن سعوا بحربهم الى اطفاء شعلة الإيمان وقصم ظهر الإسلام، فيفرح لأن نتاج جهاده وتضحيته بحياته لم تذهب سدى، ولم يمت كما يموت البعير بلا تأثير، بل يشهد كم توسع الإسلام وكم ترسخت العقيدة بين المسلمين وكم تعمقت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المؤمنين، فبات أكثر شخصية في التاريخ نالت محبة البشر وتقديرهم، ويزداد ذلك عبر العصور.
إذا فالشهيد سمي شهيدا لأنه حي حاضر يشهد ثمرة استشهاده ويرى عوائد تضحيته الى يوم الدين.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى