
#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 23 من سورة الأحزاب: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.
تأتي هذه الآية في سياق الحديث عن معركة الأحزاب (الخندق)، والتي شاء الله تعالى أن تكون أشق المعارك وأكثرها خطورة على المسلمين لأجل الابتلاء والتمحيص، فذلك كان أولا لأجل شحذ همم المؤمنين الصادقين ورفع عزائمهم، ومن ناحية أخرى لأجل كشف المنافقين وفرزهم، وبين هؤلاء وهؤلاء كان غالبية المسلمين ممن هم مؤمنون لكن قدرتهم على مواجهة الصعاب متدنية، لذلك كانوا بحاجة الى درس قاسٍ لتتمرس نفوسهم بالمعاناة الميدانية، لأجل أن يضطلعوا بالمهمة الدعوية الشاقة للعالمين، في المرحلة القادمة بعد أن يستتب الأمر للدين في معقله (الجزيرة العربية).
في زمن تلك الموقعة، لم يكن يدرك المسلمون كل تلك الحكم، فقد كان الخوف من الاجتثاث ماثلا، اذ اجتمعت العرب جميعها عليهم، في أول تحالف عريض نشأ بين قبائل لم تأتلف على أمر آخر قبلا، كما نقض أهل الكتاب المقيمين في المدينة عهدهم وانضموا لهذا التحالف، وقد وصف تعالى هذا الضيق الشديد الذي أحاق بالمسلمين بقوله في الآية العاشرة: “إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا”.
إذاً ولشدة الضيق وصل الأمر حتى بالمؤمنين المصدقين بوعد الله أن يظنوا أن الله تخلى عنهم، وأن حزب الباطل قد تمكن منهم، وهذا هو الابتلاء العظيم وهذا هو الزلزال الشديد الذي عصف بنفوس المؤمنين.
طبعا بعد ذلك جاءهم نصر الله، ومن غير ان يكلفهم عناء القتال، فرد الأحزاب خاسئين، وأوجد للمسلمين المبرر والغطاء الأخلاقي لكي يتخلصوا نهائيا من كيد وتآمر أهل الكتاب، فكانت النتيجة نصرا مضاعفا.
ذلك كان تاريخا مضى وانتهى، فما الحكمة من استذكاره الآن!؟.
إذا ما علمنا أن كتاب الله لم يذكر وقائع الأحداث بقصد التأريخ وتوثيق الوقائع، بل لتعليم المسلمين في قادم الأيام كيف تكون سنن الله الكونية في عباده، ولفهم الدروس المستفادة ولاستنباط العبر منها، بدليل أنه لم يذكر الأحداث بتسلسلها ولا في سياقها التاريخي، بل ينتقي منها ما يعزز الدرس والحكمة.
نحن اليوم في حال شبيه بذلك الحال، من حيث اجتماع كل قوى البغي من معادي منهج الله على محاولة اجتثاث البؤرة الجهادية الوحيدة الباقية في ديار المسلمين، والتي هي قائمة في غزة، فعلى اتساع بلاد المسلمين وكثرة عددهم إلا أنه لا توجد في أية بقعة من ديارهم حاليا دولة إسلامية، فجميع الأقطار الإسلامية تنتهج العلمانية التي وضع أسسها معادو منهج الله الأوروبيون، ولا تجرؤ أي منها على اتباع منهج الله.
تأتي هذه الآية، التي وصفت الثلة الصابرة من المؤمنين من جيل السلف الصالح، وكل من حذا حذوهم وانتهج نهجهم طوال التاريخ، لينطبق الوصف فيها اليوم على هذه الثلة المؤمنة الصابرة حين البأس.
ففي قوله تعالى (من المؤمنين) تخصيص وتبعيض، فليس كل المؤمنين صدقوا في وعدهم لربهم أن يقاتلوا في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فبعضهم مؤمن متبع لكتاب الله فيما يتعلق بالعبادات القليلة الكلفة، لكنه متقاعس عن أداء تلك المكلفة، كالزكاة والجهاد بالمال والنفس، كما يرى المنكر من جور الحكام ومخالفتهم لمنهج الله فيسكت عن ذلك ويكتفي بالدعاء بأن يغير الله الحال، كحال أغلب المسلمين هذا الزمان.
هؤلاء الثلة المجاهدة المرابطة والصابرة على الحصار والتجويع، لا يضيرها من خذلها، ثابتة على عهدها مع الله، رغم اجتماع كل شياطين الإنس عليها، منهم من استشهد فوجد عند ربه خيرا من دنياه، ومنهم من نذر نفسه للشهادة، فهو يقاتل عن عزيمة عالية، فرأيناه ينفذ المهام الصعاب، لا يخاف الموت.
هؤلاء الذين قيل لهم إن أمريكا وأذنابها قد جمعوا لقصفكم بأعتى أسلحة التدمير، فما زادهم ذلك إلا إيمانا وتسليما.
هؤلاء هم ذاتهم من خذلهم إخوانهم في الدين، بل تآمروا عليهم وتحالفوا مع العدو عليهم وعاونوه في حصارهم وملاحقة من يؤيدهم، لكنهم ما وهنوا وما بدلوا تبديلا.
ان ما يدل على أن نصرهم قادم، أنه تعالى ثبت أقدامهم وسدد رميهم، وقذف في قلوب أعدائهم الرعب.