
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية الثالثة من سورة المائدة: “الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”.
هذا جزء من الآية التي قيل أنها آخر ما نزل من كتاب الله، وقال آخرون أن آخر ما أنزل كان آية المكاتبة في سورة البقرة، لكن ما يرجح أنها هي الخاتمة للتنزيل المضمون.
في قوله تعالى اليوم ، لا يعني ذلك التاريخ الزمني المحدد بذلك اليوم بل يقصد به (الآن)، أي الزمن الحاضر.
أول ما يجلب الانتباه هو تطمين المؤمنين الى ان خوفهم على دينهم من الاجتثاث قد زال نهائيا، فقد قدر الله لهذا الدين البقاء، بمعنى أنه لا توجد أية قوة مهما عظمت بقادرة على القضاء عليه، وقد شاء الله أن يطمئن رسوله الكريم وقبل أن ينتقل الى الرفيق الأعلى بأن دعوته أثمرت، وأن ما تركه للناس من بعده من هدى سيبقى الى يوم الدين، ولن يتمكن معادو منهج الله من وقف انتشار الدين.
هذا يدعو المؤمن الى عدم القلق في أي زمن من تفوق الكافرين، فقد تعهد الله بحفظ هذا الدين مهما تجبر معادوه وكثر تاركوه، فهو ما مد لهؤلاء المعادين لمنهجه وزين لهم استهداف المؤمنين، إلا لكي تبقى سنة التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، ولكي لا يركن المؤمنون الى الدعة والسكينة ويتكاسلوا عن الجهاد في سبيل الله، لأن في بقاء التهديد لهم قائما، تتمرس نفوسهم وتعلو هممهم ، وتنكشف معادنهم، وينفرز من بينهم المنافقين، والأهم من كل ذلك يصطفي الله من بينهم الشهداء الأخيار.
الاطمئنان الثاني لنفوس المؤمنين هو أن دينهم كامل، فما يتبعونه هو الحق من عند ربهم، وعقيدتهم كمال مطلق، والإسلام كما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم كامل، لا يشوبه أي نقص ولا يحتاج لتعديل أو تطوير.
هنا يجب التنبه الى معنى ودلالة استعمال الله تعالى للفظتي أكملت وأتممت.
النعم لا يكون فيها كمال، فهي دائما متبدلة كما ونوعا، ولحكمة شاء الله ذلك التبدل والتغير، لأنها من ابتلاءات الله، يزيد فيها أو ينقص، بهدف ابتلاء المرء إن زاده إياها أيشكر الله عليها أم يجحد، وإن انقصها أيصبر ويحتسب أم يجزع فيكفر.
النعمة الأعظم التي أسبغها على بشر كانت على العرب ، باصطفائهم من بين البشر بإنزال الرسالة فيهم، واختيار الرسول منهم، وتشريفهم بأن أنزل القرآن بلغتهم التي يجيدونها، وجعلهم أمة التبليغ.
هذه النعم كثيرة جامعة، فلم تترك لهم مزيدا من خير يحصلونه ولا شرف ينالونه إلا وأعطوه بهذه الرسالة، لذلك كان التمام.
أما الدين فقد أنزله الى البشر، الجزء العقدي منه ثابت وهو التوحيد، والجزء التشريعي على مراحل، وعبر أزمان طويلة، منذ دعوة نوح عليه السلام، بتشريعات جزئية حسب تطور البشر فكريا، وتقدمهم العلمي والحضاري، ولما أن الله قدر أن زمن رسول الرسالة الخاتمة قد حان، فذلك يعني أنه لن ينزل بعدها رسالة، فالمنطقي أن يكون بها استكمال الدين بالصورة النهائية، وبما لا يحتاج الى أي تعديل أو تطوير.
لذلك كان الكمال في الدين.
من هنا جاء قوله تعالى (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، فقد اعتبر مسمى الدين المكتمل هو الإسلام، ولما كان منطقيا أن الكامل يغني عن المنقوص، ويصبح بديلا عنه، لذلك قال تعالى في كتابه النهائي (القرآن الكريم)، والذي أنزله بديلا لكل كتبه السابقة: “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” [آل عمران:85]، ولذلك لم يحفظ الله أيا من كتبه إلا القرآن.
لذلك فمن عاصر الإسلام أو جاء بعده ولم يتبعه، واختار اتباع العقائد السماوية السابقة، فلا يقبل ذلك منه، وسوف يكتشف مدى سوء اختياره يوم القيامة.
ويفسر الله حال أولئك المؤمنين بالرسالات السابقة وعاصروا نزول الرسالة الخاتمة ولم يؤمنوا بها في الآية التي تليها (86) بقوله تعالى: “كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”، ويعتبر ذلك كفرا ناقضا لإيمانهم السابق، وبالتالي اعتبرهم ظالمين لأنفسهم لأنهم حرموها من أجر الإيمان.