
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 39 من سورة الشورى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ”.
السياق الذي جاءت هذه الآية فيه، في تعداد صفات من وعدهم الله بعطائه في الآخرة، والتي جاءت بدءا من الآية 36 وحتى الآية 39: “فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”، وجاء تبيان من أهلتهم خصالهم التي اتصفوا بها في الحياة الدنيا، وهم أربعة جماعات.
الجماعة الأولى من هؤلاء الفائزين هم الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
والثانية هم: “وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ”.
والثالثة: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
وأما الرابعة فهي ما نحن بصدد بحثه فيما يلي.
أول ما يستوقف المتأمل في هذه الآية، أن سياقها مختلف عن سياق المواصفات الثلاث الأولى، والتي هي مواصفات المؤمن العقدية والسلوكية، فيما هذه الآية تحض على أن يكون المؤمن قويا لا يرضخ للظالمين ولا يتقبل السكوت عمن ظلمه.
السؤال الهام: كيف نوفق بين دعوة الله هذه للمؤمن بأن لا يتقبل أن يعتدى عليه، فيرد على المعتدي بالمثل وفقا لأمر الله الوارد في قوله تعالى: “فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ” [البقرة:194]، وبين دعوته نعالى المؤمنين للصبر على الأذى والإعراض عن المبادرين بالإيذاء، في قوله تعالى: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” [آل عمران:186] ؟.
الإجابة تكمن في فهم سياق الآيات، فليس هنالك أي تناقض بينها:
فالحالة العامة للمؤمن أنه قوي بإيمانه، عزيز النفس بما أعزه به الله، لذلك يريده الله أن يبقى مهيب الجانب، لا يجرؤ معادو منهج الله على النيل منه، لكن مع بقائه محافظا على خلق المسلم، فلا يغتر بقوته فيكون شرسا معتديا، بل حسن الخلق، سمحا في تعامله، ودودا في علاقاته.
لكن إن طمع ظالم في طيبته، واعتقدها ضعفا وقلة حيلة، فلا يجوز له السكوت على عدوانه، بل عليه أن يرد عليه بالمثل، ولا يزيد بأن يرد الصاع صاعين، فالعبرة بالرد هي وقف العدوان ورد الظلم، وليس الانتقام وتلقين الدروس، لأن ذلك يعتبر بغيا وظلما.
أما آية سورة آل عمران التي دعت الى الصبر على أذى أهل الكتاب والمشركين، فقد جاءت في سياق الابتلاء، بدليل ابتدائها بـ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)، والابتلاء هو من الله، ويكون مؤقتا ونتيجته الفرج دائما، لذلك فلزومه الصبر والمصابرة والثبات على المبدأ الى حين زوال المحنة.
لقد أراد الله للمؤمنين أن يعلموا أن الكفار من أهل الكتاب والمشركين لن يهادنوا المؤمنين، طالما هم ثابتون على مبدئهم الإيماني، وسيبذلون قصارى جهدهم في إيذائهم بالقول، لأجل صدهم عن منهج الله وإعادتهم كفارا مثلهم، لذلك فأفضل رد على أذاهم المعنوي هو الصمود والثبات، فذلك كفيل بإبطال كيدهم، لكنهم لن يتوقفوا عند الإيذاء الإعلامي، وإن امكنهم فرض تلك الردة بالقوة فلن يتوانوا عن ذلك، لذلك أمر الله المؤمنين بدوام التجهز وإعداد القوة المستطاعة، لأجل إرهاب أعداء الله وإخافتهم من مغبة شنّهم عدوانا.
إن ما سبق ذكره من تعليمات إلهية ليست للأفراد المؤمنين فقط، بل هي للمجتمع المؤمن أيضا، أي هي مبادئ يجب أن تلتزم بها السلطة الحاكمة للمسلمين: فالأصل في العلاقات الدولية أن تلتزم الدولة الاسلامية بالسلام والتعاون مع الدول الأخرى، لتحقيق المصالح المشتركة، بلا بغي ولا عدوان على الغير، لكن مع إعداد القوة الرادعة لمن يطمع بالبغي على المسلمين، وعدم السكوت عن الاعتداء إن حدث، بل الرد بالمثل على كل اعتداء، وليس السكوت على الظلم والاكتفاء بمناشدة الضمير الدولي.
ولذلك يحرم على الحاكم المسلم مهادنة الظالم المعتدي بالتطبيع معه قبل زوال ظلمه وتحرير ديار المسلمين من احتلاله، لأن ذلك يعني قبول دوام ظلمه وهيمنته، وهذا عكس ما أراده الله لعباده المؤمنين من عزة وكرامة.
لا شك أن الله يعلم ما ستتعرض له أمته في الزمن القادم (زمننا هذا)، فأودع في كتابه الوصفة الصحيحة لمعالجته.