تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 20 من سورة الشورى: “مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ”.
تؤكد هذه الآية ما أكدته آيات كثيرة غيرها، بأن الإنسان مخير في اتباع ما يريد منهجا في حياته، ولم يفرض الله عليه اتباع صراطه المستقيم قسرا، لكي يتحمل المسؤولية عن حسن أو سوء اختياره.
خيرات الدنيا ومباهجها متاحة لمن بذل الجهد، فجدَّ واجتهد، لكن خيرات الآخرة أعظم وأدوم، لذا فنوالها مقصور على الذين آمنوا بالله ثم استقاموا، وظلوا ثابتين على منهجه القويم، وهي مُكلفة لمن يلتزم بها، وتُفقِده كثيرا من المتع والشهوات العارضة، والمنافع الآنية الرخيصة، لذلك نجد متبعي هذا المنهج هم القلة، والمتفلتون منه هم أغلب الناس.
إن إعراض أغلب الناس عن منهج الله لا يعني أن الأغلبية هم الأصوب رأيا والأفلح مسعى، بل لأن الإنسان يميل الى الكسب الظاهر والنفع المباشر، وينفر من المأمول والمرتجى المؤجل، ولو كان أعظم نفعا.
لذلك فتح الله المجال للناس للتنافس على الفوز بما وعدهم به في الحياة الآخرة، وأتاح للجميع فرصا متكافئة.
هنا يظهر دور أعظم ما كُرِّمَ به الله الإنسان وهو العقل، إذ هو الذي يهديه الى فوز مؤكد بالربح في الدارين، فلا يأخذ من خيرات الدنيا إلا تلك التي أحلها له الله، ولا يتعداها الى ما حرّمه، لكي لا يَحرِمه ذلك من خيرات الآخرة التي وعده بها الله.
هؤلاء هم من احتكموا الى عقولهم والمنطق، فآمنوا بيوم الحساب، لأنهم عرفوا أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يترك الناس هملا، فاتّقوه ومنعوا أنفسهم من الإنجرار لمغريات ما حرّمه.. فأولئك هم أولو الألباب.
قال لي أحد الناس محاججا: لا تنفك تذكر أن المؤمنين حياتهم طيبة: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” [النحل:97]، وأن معيشة الكافرين نكدة: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا” [طه:24]، فما لي أرى اليابانيين حياتهم طيبة وليس فيها ضيق ولا نكد، فيما لا أرى مثل ذلك في أي شعب مؤمن!؟.
قلت له سأذكر لك هذه القصة الواقعية عساها تكون لسؤالك إجابة شافية:
كان معنا في المرحلة الإبتدائية طالب قدراته في التحصيل المدرسي متواضعة، فترك المدرسة في الصف الخامس، والتحق بالعمل كعامل باليومية في ورشة بناء.
أصبح سعيدا أكثر عندما ترك المدرسة، وكنا نراه كذلك، ونحسده على أمور كثيرة، مثل أنه غير ملزم مثلنا بالدوام في أيام الشتاء القارسة، ونراه ذا مال يشترى ما يشاء من حلوى، فيما نحن لا نملك شروى نقير، ويسهر مرتاحا متحللا من الواجبات المدرسية الثقيلة، وفي أيام الإمتحانات كان يجلس في المقهى فيما نحن مكبون على الدرس والمراجعة المنهكة.
رغم كل ذلك، فلم نكن نتمنى أن نكون بحاله، حيث أن أمامنا بضع سنوات متعبة، لكن حالنا بعد التخرج سيكون أفضل منه بلا شك، وفعلا انقضت سنوات الدراسة الجامعية وعملنا جميعا في مهن مختلفة،.. لكننا بلا شك صرنا أفضل منه حالاً لأنه ظل يعمل باليومية، وتبدل شعورنا نحوه من الحسد الى الشفقة.
المعاناة في الحياة المدرسية مؤقتة، ولا قيمة لها مقابل النتائج العظيمة المرجوة بعد انتهائها، لذلك فقد كنا في قرارة أنفسنا خلالها نشعر بالسعادة، لأننا كنا نعيش على آمال عريضة بنوال ما يعوضنا عن تلك المعاناة أضعافا مضاعفة، لكن زميلنا العامل الذي كانت سعادته في تحلله من تلك القيود والواجبات المدرسية، انقضت سريعا، ليحل محلها الحسرة والندامة العارمةعلى ما فرط في حق نفسه، والسنوات القليلة التي قضاها ونراه فيها متميزا عنا بنمط حياته (المترف نسبيا عنا)، كان فيها في قرارة نفسه شقيا نكدا، كونه يعلم أنه لا ينتظر مثلنا انتقالا الى حياة باذخة مريحة.
لذلك من أعرض عن الله واختار لنفسه التنعم في الدنيا، يمد الله له منها، ولا يجازيه عن سوء اختياره بحرمانه منها، وإذاً لبطل الحساب والجزاء، لأنه حينها لن يعصي الله أحد، فينعدم الفارق بين من يتبع أوامره التزاما وطاعة، ومن يتبعها خوفا من حرمانه أنعمه.
وهذا عين العدل.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى