
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 78 من سورة الحج: “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ”.
هذه الآية هي خاتمة سورة الحج، ولأنها تبدأ بحرف العطف (الواو)، فهي مكملة للآية السابقة التي تقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، والتي تخاطب المؤمنين، لذا فهي أمر مباشر من الله الى الذين استجابوا للرسالة المحمدية فاعتبرهم الله مؤمنين.
الأمر الإلهي هو تكليف، وبأدائه ينالوا الفلاح، الذي هو غاية النجاح في الاستثمار المجدي من حياتهم، فلا تذهب لعبا ولهوا كالضالين، بل تحقيق ما أراده الله لعباده من توفيق في الحياة الدنيا ونيل مثوبته في الحياة الآخرة.
تتلخص بنود التكليف بأربعة إن أدوها فقد حققوا المراد، ثلاثة منها في الآية 77 والرابعة في الآية 78، وتتلخص بأداء الصلاة، والتوحيد أي الاعتقاد بألوهية الله وحده اعتقادا خالصا من أي شرك بغيره، وعمل الخير، وأما الرابعة فهي الجهاد في الله، ولأهميتها فقد جاء بها منفصلة بالآية الأخرى.
لقد جاء الحض على الجهاد بالله بصيغة قوية: (حق جهاده)، أي وفق ما يستحق الأمر وتستوجب الحالة، وحتى لا يفهم المؤمن أن ذلك يعني الانخراط في الجهاد طوال الوقت ليحقق حق الجهاد، فقد أتبعها تعالى بالحكم العام لكل أحكام الدين وهو التيسير والتخفيف، ذلك لأن الجهاد بأنواعه متطلب عام وخاص.
فالعام منه الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأكبر، فهو جهاد النفس، وذلك لأنه يتطلب مغالبة الأهواء والشهوات وضبط الجوارح وفق محددات الاستقامة، وهذا يستلزم جهدا وصبرا ومعاناة، لا يمكن الإيفاء بها إلا من ذوي الهمة العالية والإرادة الصلبة، والتي لا يحققها إلا الإيمان، ولا يديمها إلا التقوى.
أما الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالمال والنفس، فهو حالة خاصة، وهو آني ومرحلي وموقوت بحالات النفير، والتي قد تتحقق في حياة المرء القصيرة مرة أو أكثر، وقد ينقضي عمره ولا يعلن نفير الجهاد، فلا تتحقق له المشاركة فيه.
بعد بيان بنود التكليف الأربعة، يبين الله وبعبارات غير قابلة للتلبيس أو التحريف حقائق هامة، وهي: ان المؤمنين ملة واحدة والدين واحد، وأن انتساب هذه الأمة هو لابراهيم عليه السلام، وهو الذي سماها الأمة الإسلامية: “ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك” [البقرة:128]، وقد أراد الله بيان ذلك وبهذا الوضوح للرد على من سيظهرون في أزمان قادمة (زمننا هذا) من كافرين برسالته الخاتمة ومكذبين بدينه القويم، ومن مشركين به، ويدّعون الانتساب الى ابراهيم، ويقول بعضهم أنه كان هودا أو نصارى.
كما يأتي النص بهذا الوضوح للرد على المنافقين من بين المسلمين السماعين لأولئك والمنقادين لتنفيذ مآربهم في تزوير دعوة ابراهيم والرسل من بعده، وتفريق الدين شيعا وتقسيم الأمة المسلمة الواحدة الى فرق متقاتلة، بحجة الدعوة الى توحيد العقائد تحت مسمى الديانة الإبراهيمية، فبعد أن بين بشكل قاطع براءة ابراهيم ممن يدعون الانتساب اليه من الكافرين والمشركين: “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” يؤكد ان من يحق لهم الانتساب أليه هم فقط المسلمون الأوائل الذين اتبعوه، إضافة الى خاتم الأنبياء ومن آمن برسالته: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا” [آل عمران:67-68].
بعدها يبين الله دور هذه الأمة المسلمة، فسيكون النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم، أي سيشهد يوم القيامة بأنه أدى الأمانة، فبلغ الرسالة التي كلفه الله بها، وترك أمته على الهدى حتى تكمل رسالته في تبليغ كل العالمين مكانا وزمانا، وبهذا ستكون شهيدة على باقي الأمم أنها أبلغتهم بالرسالة، فلا يكون لأحد حجة يوم القيامة بأنه لم يصله هدى الله.
بتكليف النبي صلى الله عليه وسلم بأداء هذه الأمانة الثقيلة نال الفضل العظيم والمرتبة العليا على جميع الأنبياء.
وبأداء أمانة التبليغ نالت أمتنا مرتبة خير الأمم.