تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في للآيتين 29 و 30 من سورة النجم: “فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا .ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ”.
بما أن الآية ابتدأت بفاء العطف، لذا فهي متصلة بما قبلها، والآية 28 يقول فيها تعالى: “وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـٔٗا”، وتشير الى الذين لا يؤمنون بالآخرة، وعدم إيمانهم بها ليس عن قناعة توصلوا اليها بالبحث ولا بأدلة مادية، بل هي مبنية على تخرصات وافتراضات، ما قادهم اليها الا الهوى، والتكذيب بمنهج الله من غير علم به ولا فهم له.
في حقيقة الأمر فالمكذبون بالدين هذا دأبهم، منذ أن أرسل الله رسالاته الهادية الى البشر والى اليوم، لم يتغير منطقهم رغم تقدم معارفهم وتطور علومهم، وبدلا من أن يستقبلوها استقبالا لائقا بمكانة من أرسلها، وتتقبل عقولهم مناقشتها بحيادية، فيجدونها منطقية لأنها متوافقة مع الفطرة المودعة في نفوسهم، فيتبعونها، بدلا من ذلك يرفضونها لأنها تعاكس أهواء الطامعين بما لدى الغير، وتحدُّ من اندفاع المنساقين وراء الغرائز الشهوانية، وتقيد ميول الراغبين بالتحلل من الالتزامات التي تفرضها الاستقامة والصلاح.
وهنا يبين الله حقيقة هؤلاء، فهم لا يبحثون عن أدلة مقنعة ليؤمنوا كما يدّعون، إذ لوكانوا كذلك لآمنوا فور أن رأوا دليلا واحدا من ملايين الأدلة التي سيجدونها في أنفسهم، بتركيبها الشديد التعقيد، وفي وظائف الجسد البالغة الدقة والتكامل، وفي تركيب كل شيء في الكون، مما ينفي أية امكانية لحدوث ذلك عشوائيا وبغير خالق حكيم عليم، مما يدل العقل الموضوعي على وجود الخالق، ولا ينقض ذلك أنه غير مرئي لنا، فكثير من الأمور لا نراها لكننا نؤمن بوجودها من آثارها وتأثيرها.
في منهج البحث العلمي، الشك في وجود الشيء ليس دليلا على عدم وجوده، وعندما يكون هذا الشيء خارج المدركات الحسية البشرية، فمن غير المنطقي البحث عنه في في دائرة تلك المدركات ومنها طلب الدليل المادي، ومثال على ذلك الثقب الأسود، فقد توصل العلماء الى اكتشافه بالمعادلات الرياضية وليس بالرصد البصري أو الصوتي، لأنه يجذب اليه المادة والطاقة، فيبتلعها ولا يعكس شيئا منها، لذلك لا يشترط العقل رؤيته لأجل الإيمان به بل يكتفي بإدراك أثره.
إذا كان ذلك في أمر واحد من مليارات موجودات الكون، فكيف يصر عقل المكذب على شرط رؤية الخالق الذي أوجد كل ذلك لأجل الإيمان به، وهل لو أراد الله لذاته العلية أن تكون مرئية للبشر..من كان يمكنه التكذيب أو التصديق؟، وإذاً لما بقي للإيمان من داعٍ، ولا كان له أثر في اصلاح النفوس، لأنه لن يجرؤ شخص على عصيان الله، ولما عاد من قيمة لابتلاء الناس وتمحيص نفوسهم في الحياة الدنيا لتأهيلهم للحياة الآخرة.
بعد هذا التوضيح، يمكننا فهم مراد الآيتين، ولماذا جاء عطفهما على الآية 28:
ففيهما توجيه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالطبع لكل الدعاة ممن سار على نهجه الى يوم الدين، بالإعراض عن هؤلاء، لأنهم انتهجوا التكذيب ومعاداة منهج الله عن منفعة مصلحية، وليس عن قناعة عقلية، وبالتالي فلا نفع من مجادلتهم، ولا من محاولة اقناعهم، فهؤلاء قد اختاروا متاع الحياة الدنيا واستبدلوه بما وعدهم به الله من نعيم مقيم في الحياة الأخرى، وهذا يدل على جهلهم بغض النظر انهم يحملون الشهادات العلمية العليا أو أنهم أميون، فهم في الغباء سواء.
من المهم معرفة أن هذا هو منهج الدعوة، فمن اهتدى فأسلم فهو المستفيد، ومن أعرض وأبى الا كفورا فقد اختار بإرادته مصيره التعس في الآخرة، وبرئت منه ذمة الله يوم يحاسب على ما قدم في دنياه، ولا يجد من حجة أنه لم يأته بشير ولا نذير، وحقت يومئذ كلمة الله: “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” [النحل:118].
لذا فلا حجة للمتشددين القائلين بوجوب قتل الكافر أو يسلم، فلا إكراه في الدين ولم يخوّل الله أحدا بالتحقق من ايمان المرء، بل كل ذلك من صلاحيات الله وحده: “وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى