#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 214 من سورة البقرة: “أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ “.
كثيرا ما يتساءل المؤمنون: لماذا يترك الله المسلمين هكذا ضعفاء متفرقين مما أطمع فيهم أعداء الله من صنفين: منهم المستعمر الأجنبي، أو ممانعي منهج الله الداخليين، ومكنهم من إذلالهم ونهب ثرواتهم، رغم وعده لعباده المؤمنين بالدفاع عنهم: ” إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ” [الحج:38].
لقد كرم الله البشر وميزهم عن كل المخلوقات بأمرين: في التركيب والهيئة وحرية الإرادة، والثاني اختيارهم لخلافته في كوكب الأرض، أي أوكل إليهم ضبط التوازنات البيئية والطبيعية التي وضعها الله.
الإستخلاف تكريم عظيم لا شك، لكنه مسؤولية جسيمة، لأن أي إخلال بالواجب يترتب عليه فساد كبير، بسبب دقة الترابط بين كل التوازنات، لذلك قال تعالى عن الإنسان ” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا” [الأحزاب:72].
لقد قدر الله في سابق علمه أن شرط الاضطلاع بهذه الأمانة هو معرفة الله، لأنها توصل الى الإيمان به خالقا صمدا حكيما مدبرا، وبالتالي تنضبط أعمال المرء بالاستقامة على أمر الله وطاعته، فينتج الصلاح.
من هنا كان رد الله على الملائكة القلقين من استخلاف بني آدم في الأرض: “قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة:30].
إن الاستقامة على أمر الله تتطلب مجاهدة النفس وشهواتها، وصبرا على إيذاء من يعادون منهج الله ويبغونها عوجا اتباعا للشهوات والأطماع، لذلك وعد هؤلاء الصادقين في إيمانهم ثوابا عظيما، وأنذر الكافرين عذابا شديدا، فأعطى الجميع فرصة عادلة موقوتة زمنا هي الحياة الدنيا، ومحصلة عملهم فيها يقرر مصيرهم في حياتهم الحقيقية الأبدية “وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”.
وسلعة الله التي يعرضها على المؤمنين به المتبعين منهجه والمستقيمين على أمره هي الجنة، وهي ثمن عظيم مقابل جهد قليل.
هذه السلعة غالية، يجب أن لا تصرف لمن لا يستحق، فقد يعيش المرء حياته ويموت وقد وجد نفسه مؤمنا بالوراثة، وعاش في بيئة مؤمنة بحكم العادات والتقاليد الموروثة، فكان يؤدي العبادات والفرائض القليلة الكلفة، ويستنكف عن تلك المكلفة كالجهاد والصبر والمرابطة والزكاة.
لا بد إذاً من الامتحان، للأفراد والمجتمعات!.
من هنا كانت سنة التمحيص بالإبتلاء، وهي شدائد وابتلاءات يسوقها الله للمجتمعات المؤمنة بهدف تمحيص من كان صادقا في اتباعه منهج الله ومستعدا للمجاهدة في سبيله بالمال والنفس، فينجح ويفوز بالسلعة الغالية، أو ينكص على عقبيه وينحني للصعاب ويتخلى عن واجبه في الدفاع عن منهج الله، فيسقط ويخسر حتى أجر عباداته وأعماله الصالحة “وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا” [الفرقان:23].
إذا فابتلاء المؤمنين سنة ثابتة دائمة أبد الدهر، وهي معيار أساسي في تمحيص من يستحقون الجنة، لذلك نرى الابتلاءات تحل بديار المسلمين في كل حين، وأما ما يحل بديار الكافرين فهي ليست ابتلاءات، فمصيرهم محتوم، أما الكوارث التي تحل بهم بين حين وآخر فهي عقوبات مستعجلة دون العذاب الأكبر في الآخرة، تحقيقا لسنة الله: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ” [النساء:79].
ابتلاء المسلمين الحالي هو في احتلال اليهود لفلسطين وبعدها السيطرة على كل ديارهم، لذا فالجهاد هو فرض عين، ولما كانت الأنظمة السياسية نافقت فأسقطت هذه الفريضة، فلا أقل من أن يقي المرء نفسه إثم ممالأتهم في ذلك، ولا تأييد أفعالهم التي تستهدف محاصرة الإسلام ودعاته، وهذا أضعف الإيمان.
ولقد رأينا تطبيق هذه الآية عمليا مرة أخرى في غزوة الأحزاب الجديدة، التي نفذها تحالف عريض ضم كل معادي منهج الله من كفار ومنافقي هذا العصر، فبعد أن زلزل المؤمنون الصامدون في القطاع، وصبروا وصمدوا في وجه أعتى عدوان ناله المسلمون في التاريخ، حقق الله وعده من جديد، فنصر عباده، واضطر الأحزاب لطلب الهدنة والرضوخ لشروط المجاهدين.