تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 53 من سورة الأحزاب: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..”.
اعتاد الوعاظ على ترغيب الناس بالزهد للتخفيف من غلواء تكالبهم على متاع الدنيا، ويلجأون في بعض الأحيان الى الحث على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيذكرون كثيرا من الروايات من مثل ربطه حجرا على بطنه من الجوع، أو سؤاله أهل بيته هل عندنا طعام، فإن لم يجد أكمل نهاره صائما.
لقد أدى الإسراف في ذلك الى تصوير النبي صلى الله عليه وسلم فقيراً معدماً، ينام على الحصير، وليس عنده في بيته أثاث، ولا يحتفظ فيه بمواد استهلاكية.
الحقيقة أنه كان مكتفيا، وبيوته عامرة بالخيرات، ولا يلبس إلا الحسن من الهندام، وودائم الظهور بأجمل هيئة، ويكثر من استعمال الطيب، وذلك من فضل الله عليه.
صحيح أنه مرت عليه صلى الله عليه وسلم أيام شداد لم يكن يجد فيها ما يأكله إلا ما يواريه أبط بلال، لكن ذلك كان في فترة الإعداد والتهيئة للمهمة الجليلة التي تنتظره، فقد أنشأه الله تعالى وهيأه للنبوة، إذ مات أبوه وهو جنين، لكي لا يكون له إخوة ولا أخوات ينالون تبجيلا هم وذرياتهم، ثم ماتت أمه، لينشأ يتيم الأبوين، وهذه أصعب حالات اليتم، لكن الله عوضه فآواه بجده وعمّه، وحفظ عقله من العلوم الفاسدة، فأبقاه أمياً الى أن علمه من لدنه، وأدبه فأحسن تأديبه، فنشأ مُبرّءاً من العيوب والمناقص، ثم منَّ عليه فرزقه زوجة كريمة غنية أسعدته وأغنته، ثم أنزل عليه رحمته بالرسالة فهداه وأكرمه بأن صار سيد الأنبياء والمرسلين: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ” [الضحى:6-8].
عودة الى الآية 53 من سورة الأحزاب، وهي جملة من الآداب التي يوجه الله فيها المسلمين، في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته، صحيح أنها مخصوصة بزمن معين مضى وانقضى، ولم يعد لهذه الأحكام من تطبيق الآن، لكننا نستفيد منها مايلي:
1 – أن للبيت خصوصية، فلا يدخلها من غير أهله إلا مدعواً.
2 – وفي حالة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقدم فيها الطعام للناس، وهذا إثبات على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فقيرا معدما، ولم تكن بيوته خاوية، بل كان يطبخ فيها الطعام وتولم فيها الولائم، ويبدو أنه كان هنالك أفواج متتالية من الذين يقصدونها طلبا للطعام، لذلك جاء التوجيه بالإنتظار خارجا حتى يؤذن لهم، وليس أن يدخلوا ويجلسوا بانتظار نضجه، لأن ذلك سوف يتخلله أحاديث قد لا يكون من المناسب أن تقال في تلك البيوت الكريمة.
3 – إن هذه البيوت لها حرمتها وكرامتها، فلا يجوز إطالة الجلوس فيها بعد انتهاء الغرض من دخولها، وهو تناول الطعام، ولما كان الناس يستأنسون ويتبركون بجلوسهم في بيت حبيبهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضايقه طول المكوث الذي يحرمه من الراحة والسكينة في بيته، لكنه حييٌ مهذب فلا يظهر ذلك، لذلك تولى الله عز وجل مهمة تنبيههم، من ذلك نستشف كم هي عظيمة منزلة رسول الله عند رب العزة، فمَنْ غيرُه من البشر اهتم الله براحته وضيقه!؟.
4 – لا شك أنه كان في أخلاق البعض غلظة، وآخرون ينقصهم التهذيب، فكانت هذه الآية تربوية، وعلى الرغم من أن أزواج النبي هن أمهات المؤمنين، لكن هنالك أصول يجب مراعاتها، فلا يدخل عليهن طالب شيئ بغير استئذان ولا استئناس، وينطبق ذلك على الأم الوالدة فقد تكون في وضع لا تحب أن يراها عليه أحد.
البعض من المتشددين اتخذ من عبارة “من وراء حجاب” أن ذلك أمر بتغطية وجه المرأة، لكن المعنى واضح، ويعني أن هنالك حائل أو حاجز يمنع التقاء النظر من الجانبين، وليس من جهة الرجل فقط، بدليل “ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى