تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في بداية سورة الأعلى: “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى”.
لو لم ينزل الله تعالى إلا هذه الآيات الثلاث، لكانت كافية لإقناع العقل بوجود الله تعالى، ولتعليل وجود المخلوقات، وللرد على الفكرة الوحيدة التي يعتمدها الملحدون رغم أنها ليس عليها دليل واحد، والقائلة بأن الصدفة وحدها هي التي أنشأت الوجود كله والمخلوقات جميعها.
يوجه الله تعالى في الآية الأولى الى تنزيه الله عن كل وصف أو تسمية تنال من قدره الأعلى، لأن دلالات اللغة والمعرفة البشرية وأدوات العقل وآفاق التفكير، جميعها محدودة مهما اتسعت وعظمت، فلا يمكن أن تصف أو تحدد هيئة أو كيان الله او تحيط معرفة بذاته العلية، فالنسبي لا يمكن أن يحيط بالمطلق.
ابتدأ الله تعالى هذه السورة بهذا التوجيه لتكون إجابة قاطعة عن السؤال العبثي: كيف هو الله وأين هو ومن أوجده.
لكنه أعطى من يبحث عن الدليل على وجوده آلاف الدلائل، وهي مادية ملموسة ترتكز على اكتشاف الإنسان لكمالات خلقه وابداع صنعه، وجعل هذه الأدلة متطورة متجددة وفق تطور المعارف لجميع العصور القادمة، حتى يقتنع العقل عن المتعطش للمعرفة والباحث عن الحقيقة في كل زمان بوجود الله ويؤمن به.
وهل يوجد وسيلة أكثر اقناعا للإنسان من تحدي العقل ذاته بالبحث عن نقص أو تناقض أو خلل في أي خلق؟: “مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ” [الملك:3].
في الآية الثانية يجمل الله تعالى كل ابداعه في خلق مخلوقاته، المواد والعناصر الجامدة منها والكائنات الحية، فالجمادات تشكل المادة المكونة لكل شيء، وظيفة كل مادة وتركيبها ثابت لا يتبدل بتغير المكان والزمان، والكائنات الحية أوجد لكلّ نوع غاية ووظيفة، سواء في الدور المناط بهذا المخلوق المكمل لغيره، أو وظائف الأعضاء المكونة لجسمه، ومهامها المنوطة بها لإدامة حياة هذا الكائن وأدائه الأمثل.
وكلما تقدم الإنسان معرفة وعلما، اكتشف شيئا جديدا، أو وظائف جديدة كان يجهلها، أو تعرف أكثر على الدور المنوط بهذا المخلوق أو الجهاز أو النسيج أو الخلية، لكنه على الدوام يكتشف ما يدهشه في كمال الأداء، ولم يكتشف في أية مرة خللا أو عيبا، بل وحدة واتساقا وتكاملا في أداء جميع المخلوقات، مما يثبت أن هنالك صانعا واحدا لها جميعا، إذ لو كان هنالك صانعان لوجدنا تناقضا وتضاربا، فكيف لو كان هذا الخلق بالصدفة مما يعني هنالك عدد لا نهائي من الصدف (الصانعين)!؟.
لقد جاءت (فسوى) معطوفة بالفاء على (خلق) لتفيد التتالي القريب، مما يعنى أن الخلق هو أمر الإيجاد فهو أولا، ويليه فورا جعله قويما سليما لا خلل فيه، والتحدى هنا أنه جاء في أكمل صورة ممكنة.
ومن يتعمق في فهم تركيب كل الكائنات الحية من أدناها وحيدة الخليه الى ارقاها وهو الإنسان، سيجد مليارات من الإثباتات أن ماهو عليه الكائن في أية جزئية مهما دقت هي في أكمل حال، ولا يمكن حتى تخيل ما هو أكمل منها.
للتوضيح سأورد مثالا واحدا في خلق الإنسان: وجود فم واحد وأنف واحد كاف لأداء المهام المنوطة بهما، ووجود الأنف فوق الفم مفيد للتذوق لأن رائحة الطعام زائدا طعمه تحدد النكهة، لكن وجود عينين هما الحد الأدنى، وذلك لتحديد الرؤية بالأبعاد الثلاثة والاتجاه، ووجود التصالب البصري مفيد لكي تتحد الصورتان الملتقطتان بالعينين ولا تتشوش في الدماغ، والدقة الهائلة في هذا العصب الحسي تبين الفارق بين الصورتين بحسب اختلاف زاوية الرؤية بين العينين، ورغم أن المسافة بينهما لا تزيد عن ستة سنتيمترات الا انه يمكن تمييز ما يبعد أكثر من 500 متر رغم أن زاوية الرؤيه ضئيلة وتبلغ 0.0001 درجة!.
أما وجود أذنين فهو لتمييز مبعث الصوت، فبحسب الفارق في زمن وصول الصوت الى كل أذن، يمكن معرفة اتجاهه، أي يمكن تمييز مصدر صوت يبعد مترا واحدا مع أن الفارق في وصوله بين الأذن والأخرى يقل 0.0001 من الثانية.
مهما بلغ الغباء من امرئ، فهل يقتنع أن ذلك جاء صدفة من غير خالق عليم مدبر!؟.
والتفكر في الآية الثالثة أرجئه لضيق لمجال.

اعلان
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى