نجيب محفوظ.. أستعيده بالمحبّة وأطرحُ سؤالي

إلياس فركوح – ماذا يعني لنا نجيب محفوظ اليوم؟
كيف ننظرُ إلى هذه القامة الأدبيّة الكبيرة، والاسم/ العلامة المتداوَل على غير صعيد، بعد رحلةِ تجارُب بدأها في النصف الأوّل من ثلاثينيات القرن المنصرم؟
هل ما تزال التركة السرديّة الغزيرة التي خَلّفها لنا هذا الرجل، من قصصٍ قصيرة وروايات ومسرحيات، تختزنُ مكنونات ثاوية وجديدة قابلة للكشف، في كلّ قراءة جديدة، يقومُ بها قارئٌ جديد، ينتمي إلى جيلٍ جديد؟
وإذا ما كان لكتابة نجيب محفوظ تداعياتها وأثَرها وتأثيرها في أوقاتِ نشرها وذيوعها، أيّ في زمنها (وهذا أمرٌ يسهل التوافق عليه من حيث المبدأ)، إلاّ أنّ التساؤل يظلُّ بلا جوابٍ حاسم عن نسبة هذا التأثير وأين نراه في سرودٍ أخرى. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يتوالى تساؤلٌ عن مدى أهليّة كتابة محفوظ وقدرتها على التأثير الحافر (كسرودٍ فنيّة أعني) في كتابات لاحقة، ليبقى تساؤلاً مُشْرَعاً ومشروعاً، على الأقلّ لدى فئة مخصوصة من الكُتّاب، والقُرّاء بالتالي، تمتلك ذائقةً مغايرة، ما يحيلنا على سؤالٍ أكثر جوهريّة:
ماذا سيتبقى من نجيب محفوظ حين نصل إلى النصف الأوّل من ثلاثينيات هذا القرن، أيّ بعد مئة سنة على نشره لأولّ قصة؟
أدركُ أنّ سؤالاً كهذا، مهما حاولنا اجتنابه، يقفُ ليترصدَ كلَّ كاتبٍ، بصرف النظر عن موقعه في أجندة تاريخه هو وخريطة الجغرافيا الخاصة به، بالمعيار النقدي الماثل في منطقة الما بعد. في رحابة وامتداد منطق توالي الأجيال وتداخل الثقافات وتداولها المتسع. في حالة التخفف من وطأة اللحظة الزمنيّة التي أفلَتْ وما عادت تتسلّح بشروطها الموضوعيّة، ومواضعاتها السالفة بالتالي أيضاً. أيّ أنّ ما باتَ «أسطورة» اليوم، أو ما يمكن عدّه كذلك، بمعنى ما، سوف يخضع لفرضيّة التآكل أو لحتميّة التناقص وإعادة النظر، ومن ثم إلى إعادة الموضعة.
غير أنّ نجيب محفوظ، حين التدقيق الموضوعي ب»مشروعه» الكتابي، قد وفّر له السياق الظرفي الذي أمضى عمرَه وسط تقلباته، فضاءً متحديّاً خاضه الرجلُ بإيمانٍ وطيد ومثابر رغم شتّى صِعابه. كما شكّلَ هذا السياق، بذاته، بالمنظور الاجتماعي والسياسي والقِيمي و»شروط المراحل»، امتحاناً عسيراً لمدى قدرته على المراوغة واستبدال المرايا دون أن يُبَدّلَ، في الوقت نفسه، من موقفه ورؤيته للعالم تبديلاً. أيّ أنه لم يكن مستعداً، أو حتّى قابلاً لمبدأ التنازل أو المساومة. لا، بل أزعمُ أنّ واحدةً من «محطات المراحل وشروطها المزلزلة» (هزيمة حزيران الكارثيّة في 1967) عملَت على تحويل طبيعة النصّ السردي القصصي المحفوظي وبنائه، كأنما على هيئة قفزة بلا مقدمات أو تمهيد، لتقوده باتجاه ما أراه «تجريباً» وعلى نحوٍ «تجريديٍّ مسرحيٍّ» بائن.
لكنها كانت قفزة واحدة لم تتبعها أخرى، قفزة قصيرة خاطفة، كما لم يتخذها نقطة انطلاق أو قاعدة يبني عليها معماراً جديداً مختلفاً عمّا أرساه لنفسه! فلقد ظلَّ بعدها هو هو، نجيب محفوظ بمفردات عوالمه المعهودة، وبشخوصه المتنامية المتناضجة بمرور الزمن وتَلاحق الكتب! إذ سرعان ما وجدناه، بعد نشره»تحت المظلّة» (حيث كانت تلك القفزة)، قد عاد إلى نصّه الأليف إليه من حيث التشكيل، المألوف والحميم لدينا، ليكتب أعماله الكبرى على غراره، وأهمها «ملحمة الحرافيش» في 1977، وقبل هذه وتلك كانت «أولاد حارتنا» في 1959، حيث نُشرت على حلقات في «الأهرام»، ثم كاملةً عن دار الآداب في بيروت عام 1967.

«تحت المظلّة»
في العام 1969، خرجَ علينا محفوظ بكتابٍ أسماه «تحت المظلّة»، جمعَ بين دفتيه ضربين من الكتابة، مما لم نألفه من الرجل من قبل: سِت قصص قصيرة، وخمس مسرحيات. وتأكيداً منه وتبياناً لخروجه على مألوف نشره السابق، تقصّدَ أن يشير في الصفحة الثانية إلى تاريخ كتابته قصصَ الكتاب على النحو التالي: « كُتبت هذه القصص بين أكتوبر وديسمبر 1967».
ولأنّ نجيب محفوظ كان مواظباً على الكتابة وفق برنامجٍ لا يحيد عنه، كما هو شائعٌ لدى الجميع، فإننا لم نلحظ في كتاباته ردّات الفعل الفوريّة على ما يحدث من حوله. كما لم نقرأ أيّ تَسرُّع أو لهفة في ملاحقته للأحداث ابتغاء تسجيل الموقف، أو تجلية الرؤية. فهو كاتبٌ «محترف» يتروّى ويقلّب الأمور، بمعنى أنه صاحب الخبرة الطويلة والدراية العميقة في كيفيّة «إنضاج» مادته وإخراجها على نحوها اللائق بها وبه في الوقت نفسه. ولهذا السبب تحديداً، نقف متسائلين عمّا استدعاه لهذا الفعل الاستثنائي، وإنجاز كتابة تستبطن، وتستعرض في آن، أسباب كارثة حزيران الطازجة ما تزال في جرحها الغائر، وكذلك في لامعقوليتها المدهشة حدّ الصدمة والذهول!
يقودني اجتهادي إلى التالي:
كأنّ لامعقوليّة الكارثة، بتفاصيلها ومجمل نتائجها الفاجعة حتّى لحظة تلك الكتابة، قد أمَدَّت نجيب محفوظ بكثيرٍ من عناصر اللامعقول البادية في مسرح تلك الحقبة، والانفصال الكامل عن مألوف العلاقات الطبيعية القائمة بين الأشخاص والأشياء في العالم الواقعي! وهذا بدوره أدّى إلى خلق عالمٍ مغاير تتحلّى مفرداتُه الحياتيّة بعلاقات ليست ذات معنى مفهوم، علاقات ناتجة عن حُطامٍ سابق أخذت بتوليد متوالياتها الداخلة ضمن «أنساقٍ تناسبُها هي وتخالف «منطق وقوانين» الرائين لها، ممن يشهدونها تحدث فعلاً ولا يصدّقون! أو بالأحرى، يتساءلون وهُم غرقى بالارتباك الذاهل ولا يعثرون، في نهاياتهم، إلاّ على رصاصات السلطة المهزومة ترديهم صَرعى، وبأسئلةٍ لا أجوبة عنها، وباتهاماتٍ يعجزون عن ردها!
من «تحت المظلّة» الواقية لهم من بلل طوفان المطر المدرار، كانوا الشهود على «فانتازيا دمويّة/ جنسيّة/ جماعيّة وفرديّة/ تتحلّى بحماية رسميّة» وتقع في الشارع العام أمام أعينهم كأنها وقائع مسرحيّة مخبولة!
ونحن، في محاولةٍ مِنّا لأن نتخيّل كتابةً يجريها نجيب محفوظ لعالم كهذا، جارياً على نهجه المألوف، الواقعي جداً من حيث علاقة الأشياء بالأشياء، والأشخاص بالأشخاص، والأشخاص بالأشياء؛ لن نخرج سوى بما يحاذي الهذيان! -وهذا ما لم يفعله محفوظ بالطبع- غير أنّ «مقتضيات» اللامعقول الحادث في كارثة حزيران، كأنها وقعَت خارج الأرض التي نقف عليها ونعرفها (أو نظن أننا نعرفها)، اقتضى من كاتبنا الكبير أن يلجأ ل»مسرحة» القصة على شكل سلسلة من المشاهد تتوالى لتكتمل، ثم يُسْدَل الستار! كأننا، في وعي الكاتب، مجرد جمهور يلتحق بأناس المظلّة ليتابع معهم عرضاً مسرحياً غرائبياً كاسراً للواقع قامَ برسمه لنا. وكأنه، في وعيه هو نفسه ككاتب، إنما شرعَ برسم ذاك العالم فوق خشبة المسرح، ليصار له أن يفهم ما حدث! وكأنّ الكتابة في ذاتها تنحصرُ في دعوةٍ مفتوحة للجميع للتأمل، وطرح الأسئلة، وتفكيك «لغز» ليس غامضاً! أو لم يعد كذلك، بالأحرى!
إنه العَبَثُ ناطقاً، وإنه التجريدُ رغم لبوس القصّ الواقعي في ظاهره.
ثمّة رؤية مسرحيّة في «تحت المظلّة» كُتبت على نحوٍ قصصيّ. ولأنها كذلك، بفانتازيتها المغالية والمتطرفة، تحوّلَت إلى مجموعة رموز وشفرات رماها كاتبها في وجوه قُرّائه، وعليهم هم أن يفككوها ليستبينوا معانيها.
عند الانتهاء من قراءة وإعادة قراءة هذه «القصة»، والانتقال إلى الثانية «النوم»، ثم الثالثة «الظلام»، سننتهي إلى نتيجة مؤداها أنّ نجيب محفوظ، ليبرالي التفكير والرؤية، الوفديّ القديم، طلع، هذه المرّة، من الكتابة الكِنائيّة المتسترة ليُفْصِحَ عن رأيه في أنّ ما حدث وبدا على هيئة غير معقولة وغير واقعيّة؛ ليس إلاّ نتيجة «معقولة وحتميّة وواقعيّة» لواقعٍ كان النومُ فيه مجالاً رحباً لارتكاب الجريمة، والظلامُ مرتعاً مفتوحاً على خلاء للمستبدّ ليستبدّ، سارقاً من الشخصيات هوياتهم/ ذواتهم الفاعلة، وملغياً وجودهم العاقل.
أما في القصتين الرابعة والخامسة: «الوجه الآخر»، و»الحاوي خطف الطبق»؛ فإنه يعود ليحتكم، في الأولى، إلى رؤيته القائلة بانتصار الشرّ على الخير رغم الوقائع الشاهدة على عكس ذلك .. وبالتالي هو تنويعٌ على خطابه السالف وإضافةٌ عليه. وفي الثانية يحكم على الملذات، وإنْ كانت صغيرة ولدى الأطفال، بالقَصاص والإقصاء! وعند وصولنا إلى القصة السادسة والأخيرة «ثلاثة أيام في اليمن»، فإنه لا يكتبها إلاّ ليشير إلى أنّ حرب مصر في اليمن كانت التمهيد والحاضن لكارثة حزيران، رغم شعارها التحرري والتعاضدي المنفتح على مشروع تحديث الحياة: لكنها، في القصة كما في الواقع ومآلاته قيد المعاينة، حداثة منقوصة. حداثة مغلولة بأفق ضيّق، وحُكْمٍ تقيّده مسيرةٌ ترفض أن تكتمل!
***
خلاصة ما أريد الانتهاء إليه، هي ريادة نجيب محفوظ للرواية ككتابةٍ حديثةٍ ذات اعتبار راقٍ، تخترقُ ثقافة المجتمع المحافظة، وتؤكد على كونها أحد وجوه تحديثه وتحديثها معاً. لم يكن الأوّل في السرد الروائي من حيث التتابع التأريخي، غير أنه الرائي إلى أنّ توالي النصوص الروائية المثيرة للأسئلة (صفةُ نصوصه جميعها) هو طَرْقٌ متصل ومتواصل وتحفيزٌ للقارئ لأن يحفر في منطقة المحظور السياسي والقيمي.
منطقة مسيّجة بالإظلام والتنويم القهري، جاءها ناقداً من منطقة الكلمة والسرد الروائي الآخذ بالترسخ على يديه فنّاً كسرَ عزلته النخبويّة. وفي هذا فضلٌ كبير.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى