بُصْرَى الشام … ورحلة لشراء الجميد !
بُصْرَى أو بصرى الشام هي مدينة تاريخية تتبع محافظة درعا السورية، تبعد 40 كم عن مركز مدينة درعا وحوالي 140 كم عن دمشق وترتفع عن سطح البحر حوالي 850 متراً، كانت بصرى عاصمة دينية ومركزاً تجارياً هاماً وممراً على طريق الحرير الذي يمتد إلى الصين ومنارة للحضارة في عدة عصور تعود لآلاف السنين، وكان الرسول الكريم محمد بن عبد الله ،أثناء رحلاته التجارية إلى دمشق (الشام) قد مر ببصرى وقابل الراهب بحيرا المسيحي الذي تنبأ بنبوته. وبُصْرَى هي أغنى مدن التاريخ على الإطلاق فالسائر في شوارعها يشعر وكأنه يعانق ملوك الرومان بهيبتهم ويعيش في الزمن الغابر وكأنه أحد أشخاص ذاك الزمان، بصرى اسم ارتبط بالقلب، فحجارتها كالبشر تروى الكثير من الأساطير وتداعب خيال الزائر ومشاعره.
وفي العام ١٩٦٥ انتدبتني الوالدة يرحمها الله كي اذهب بمعيتها لشراء الجميد من القرى الحدودية في سوريا -وكنت في الحادية عشرة- ومع ذات فجر من يوم خميس من نهاية ايار في بداية العطلة المدرسية ايقضتني امي واختارت نصار الذي يكبرني ببضع سنين، ليذهب معنا، ونصار هذا هو ابن الميكانست الاكير، وهو الفتى المطيع الذي نام عندنا في تلك الليلة، وهو الذي كان غالبا ما يساعد اباه في تشغيل وصيانة ببورنا للطحين المملوك لوالدي منذ العام ١٩٥٨.
خرجنا ثلاثتنا من البيت مع طلوع الشمس من قريتنا “بيت راس” وركبنا باص القرية حيث باصات الرمثا ومشينا حتى مركز مدينة الرمثا فوجدنا في الطريق رجل في العقد الرابع من عمره، يقود حماره بعناية ويبيع البيض الذي اودعه في سلتين متوازنتين -وفيهما تبن ابيض كي لا يتكسر البيض- على ظهر حماره. الساعة كانت تقترب من السابعة صباحا، والرجل بشوش الوجه يريد تسويق بيضه لمن يشتري “كل ست بيضات بشلن” فساومته الوالدة وهي لا تريد شراء البيض ولكنها تريد الذهاب لشراء الجميد ! الوالدة ذكية في الحوار وتبين لها من حديثه انه سوري وليس رمثاوي، وفي معرض الحديث القصير قالت له انها ذاهبة لشراء الجميد من سورية فهل انت سوري ليجيب انه من بصرى وفيها جميد ممتاز وسوف يساعدها بشراء نوع ممتاز من الجميد الذي لديه وغيره في بلدته بصرى، وقال ان زوجته قد انجبت في الليل بنتا هي الخامسة من نسله وهي في نفاس، وعزمنا للذهاب لبيته وسوف يعود في المساء، وفعلا تركنا الرجل وشأنه بعد ان استوضحت الوالدة رحمها الله تفاصيل الرحلة الى بصرى. ذهبنا للطرة على الحدود، وهي القرية القريبة لقرية تل شهاب السورية ومن ثم قطعنا المسافة مشيا على الاقدام لتل شهاب، حيث لا نمتلك جوزات سفر ! ومن تل شهاب ذهبنا بالباص الى درعا ومن ثم بباص آخر لبصرى فوصلنا العصر وذهبنا لبيت بائع البيض. فوجدنا زوجته وبناته الاربعة والطفلة الوليدة يسكنون في غرفة كبيرة مسقوفة بسيقان الاشجار العملاقة والقصيب الموشح بالسواد تلقاء السناج المتراكم من غاز ثاني اوكسيد الكربون المنبعث من المواقد في مواسم البرد. وصل الرجل لبيته قبل الغروب فرحب بنا ايما ترحيب وقال لنا في الصباح رباح، وتعشينا وشربنا الشاي المحلى مع القرفه بضيافته، ونمنا ثلاثتنا “انا وامي ونصار” تلك الليلة مع اسرته في نفس الغرفة المفتوحة الباب، بينما نام هو خارجها امام تلك الغرفة الواسعة المهيبة. لم استطع الخلود للنوم في تلك الليلة المقمرة وذلك بسبب خوفي من تلك البغلة الضخمة التي كانت تتحرك امام الغرفة باستمرار وتحرك ذيلها في ثلاثة ابعاد بسبب البرغش الذي يغزو مؤخرتها “وقد اصابني ما يشبه الفوبيا بسبب حراكها المستمر”.
وفي الصباح شربنا الشاي المحلى بالقرفة ومن ثم الحليب واصطحبنا الرجل الشهم حيث اكوام الجميد المعروضة للبيع حول اللقى الاثرية والاعمدة العملاقة المنتشرة في بصرى، وساعد امي بشراء شوالين متوسطين من الجميد بسعر مقبول ومن ثم شكرت الوالدة الرجل الكريم وعدنا بالباص ومعنا الجميد اضافة لنوعين من الصابون السوري وهما الواح من صابون النعامة وصابون الفونيك، حيث كانت مهمتي حملهما، اما الشاب نصار فكانت مهمته العناية بشوالات الجميد تحميلا ونقلا من باص لباص في رحلة العودة. وصلنا تل شهاب في الساعة العاشرة قبل ظهر الجمعة ومشينا مسافة بسيطة حيث لا يوجد طرق معبدة ولا ترابية ولكنها سهول محروثة بعناية شرق وغرب، ويحدها سهول اردنية محروثة ايضا شمال وجنوب وذلك هو الحد الفاصل بين الاردن وسورية في ذلك الزمان، فوجدنا بيت شعر لبدوي سوري لديه ثلاثة من الحمير مربوطة خارج بيت الشعر وبداخلة سيدة هي راعية البيت وفتاة هيفاء جميلة هي ابنتها الكبرى، وبدون عناء وافقت صاحبة بيت الشعر على تأجير الحمير الثلاثة مقابل ستة قروش لنقل الجميد حيث اركبوني الحمار الثالث وقد تعبت، اما الحمار الاول فكان يقوده نصار والثاني قادته تلكم الشابة الهيفاء ذات القوام الرشيق بمصاحبة امي والحديث بينهن ذو شجون حتى وصلنا الى اراضي الطرة حيث بيت بدوي اردني لديه حمار واحد، وافق صاحبه على تأجيره حتى الباص بأربعة قروش، فجمعنا الجميد بشوال واحد ليحملها الحمار الاردني وشتلة صغيرة حملها نصار على كتفه حيث وجدنا باص لاربد مباشرة وعدنا لبيت راس سالمين غانمين … وقد كررت امي الرحلة في العام ١٩٦٦ وكان بصحبتنا اخي الاصغر مني بثلاث سنوات امين …