بين غزة وغرناطة: دروس من التاريخ

بين #غزة و #غرناطة: #دروس من #التاريخ

د. #حفظي_اشتية

التاريخ أستاذ الزمان الأعظم، صارخٌ في صمته، تتجلى في أحداثه عِظات وعبر، يلتقطها الواعي يتعلم ويسلم ويغنم، ويمرّ عنها الغافل ساهيا لاهيا فيتردّى ويهلك.

بأمر من القائد العربي موسى بن نصير مطلع القرن الثامن الميلادي، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، عبر جيش طارق بن زياد إلى الأندلس فاتحا ينشر الإسلام، وتوالت انتصاراته، فلحق به موسى بنيّة أن يعبر أوروبا من غربها إلى شرقها لفتح القسطنطينية العصيّة. واستطاع القائدان بسط السيطرة الإسلامية على معظم الجزيرة الأندلسية في بضع سنين.

مقالات ذات صلة

بعد أربعين عاما سقطت الدولة الأموية على يد العباسيين، ففرّ أحد أمراء بني أمية، عبدالرحمن بن معاوية “صقر قريش” الملقب بالداخل لأنه دخل إلى الأندلس، وأقام فيها الدولة الأموية التي دامت حوالي ثلاثة قرون، وكانت منارة الدنيا وشعلة الحضارة، وعاصمتها قرطبة أمّ المدائن، يتوافد إليها أبناء أثرياء أوروبا للدراسة في مدارسها وجامعاتها، ويتفاخرون بذلك، ويتطاولون باستعمال كلمات عربية للتدليل على ثقافتهم، ولا يأنف ملوك أوروبا من القدوم إلى عبدالرحمن الناصر الخليفة الأندلسي الأموي العظيم وتقبيل يده على الملأ.

لكنّ هذا الحكم العظيم تضعضع مع مرور الزمن لكثرة الخلافات والفتن: خلافات بين العرب والبربر، خلافات بين اليمانية والقيسية، خلافات بين الإخوة والأبناء…..، فأعلن الوزير أبو الحزم بن جوهر سقوط الدولة الأموية سنة 422هـ، فبدأ كل أمير يُعلن استقلال ولايته، ويجعل منها مملكة خاصة له ولأسرته. وبذلك بدأ عهد ملوك الطوائف فتحولت الأندلس الكبيرة القوية الموحدة إلى 22 دويلة صغيرة تتنازع فيما بينها!!! وبدأت تتساقط بأيدي مملكتَيْ أراجون وقشتالة منذ مطلع القرن الحادي عشر، فسقطت ليون وسلمنقة وقلمرية ومدريد…. ثم كان سقوط طليطلة سنة 1085م إيذانا بتهديد عظيم يطال الوجود العربي الإسلامي جميعه، لأنها واسطة عقد دويلات الأندلس، وسقوطها يعني انفراطه كاملا، وقرب سقوط كل من جاورها.

أدرك المعتمد بن عباد ملك إشبيلية الخطر المحدق، فاستغاث بدولة المرابطين في المغرب، فأغاثه يوسف بن تاشفين بجيش لجب، انتصر انتصارا ساحقا على النصارى في معركة الزلاقة 1086م، وأطال في عمر الوجود العربي في الأندلس أربعة قرون أُخرى، وسيطر على أهم ممالك الطوائف ووحّدها غصبا تحت حكمه.

لكنّ دولة المرابطين تزعزعت، فخلفتها دولة الموحّدين سنة 1147م الذين حكموا حتى 1212م، ثم انهار حكمهم إثر هزيمتهم في معركة العقاب أمام النصارى، وسرعان ما سقطت قرطبة وبلنسية وشاطبة ومرسية….. وظلّ ملوك الطوائف المتبقون سادرين في غيهم ومجونهم ولهوهم وخلافاتهم وتحالفاتهم مع النصارى ضد إخوانهم، وحروبهم فيما بينهم إلى أن تهاوت ممالكهم واحدة إثر أُخرى وهم ينظرون وينتظرون دورهم، ولم يبقَ في أيديهم إلا إشبيلية وغرناطة، وفي حكاية سقوط كل منهما تجليات أليمة فاجعة للواقع العربي آنذاك.

أطلت الكارثة الختامية برأسها على يد محمد الأول بن يوسف الأحمر، الذي ساعد النصارى في إسقاط قرطبة، وحاول أن يحافظ على مملكته فعقد معاهدة مهينة مع ملك قشتالة يدفع بموجبها الجزية، ويسلّم بعض الحصون، ويعلن التبعية، ويحارب مع جيش قشتالة الأعداء عند الطلب حتى لو كانوا مسلمين. وظن بذلك أنه يحمي مملكته.

توجّه ملك قشتالة لحصارإشبيلية، وفرض على ابن الأحمر أن ينضم إليه مرغما هو وجيشه وفق المعاهدة اللئيمة، فأطاع، واشترك في حصار مرير على المدينة المسلمة دام شهورا طويلة إلى أن استسلمت وخرج أهلها أجمعين أذلاء صاغرين سنة 1248م. وبقيت بذلك مملكة غرناطة وحيدة تتبع لها مالقة والمرية ووادي آش، وتستقبل المهاجرين الفارّين بدينهم وأعراضهم.

ثم نقض ملك قشتالة عهده، فحاصر غرناطة سنة 1273م، فاستعان ابن الأحمر بدولة بني مرين التي خلفت الموحّدين، فنصره يعقوب بن منصور، وفكّ الحصار. مات ابن الأحمر، وتولى ابنه محمد الثاني الفقيه الحكم، فأغرى ذلك ملك قشتالة بالعودة وحصار غرناطة. استعان الفقيه مجددا بيعقوب، فعاد يعقوب مناصرا وانتصر أيضا، وترك بضعة آلاف من جنده في المرية التابعة لغرناطة، وضمّها لحكمه بناء على طلب حاكمها. خشي محمد الفقيه من يعقوب على مملكته، فاستعان بملك قشتالة لمحاربته!!!!!! عاد يعقوب مجددا وانتصر على ملك قشتالة وابن الأحمر معا.

وبقي الأمر على هذه الحال في غرناطة: خلافات وفتن ومؤامرات وتحالفات مع الأعداء، طوال قرنين من الزمان، كان الأعداء فيهما منشغلين أيضا بخلافاتهم الداخلية.

في سنة 1467م، أي قبل ربع قرن من السقوط المدوي الأخير، تولى الحكم في غرناطة محمد بن سعد “الغالب بالله”، فاختلف على الحكم مع أخيه محمد الزغل، واقتتلا، فاستعان الزغل بـ قشتالة على حرب أخيه، وانتهى الخلاف بتقاسم غرناطة الدويلة الهزيلة الوحيدة بين الأخوين، الغالب في الشمال والزغل في الجنوب.

بعد سنتين تزوج فردناند ملك أراجون بإيزابيلا ملكة قشتالة، وأقسما أن يكون حفل زواجهما في قصر الحمراء بغرناطة. واتحدت المملكتان سنة 1474م باسم مملكة إسبانيا.

ثم جاءت الطامّة الكبرى في غرناطة بسبب خلاف أسري، فقد كان الغالب بالله متزوجا من ابنة عمه عائشة الحرة، له منها ولده أبو عبدالله الصغير وريث العرش، وكانت له جارية نصرانية فُتن بها فتزوجها، وبتأثيرها الشديد عليه أراد أن يجعل ابنه منها وريثا للعرش، عارضت عائشة وابنها بشدة، فحبسهما في برج بقصر الحمراء. ثار المؤيدون لهما فحرروهما، فثار أبو عبدالله الصغير على والده الغالب بالله، وطرده من غرناطة، فتوجه إلى أخيه وخصمه محمد الزغل، ومات كمدا بعد عام.

استغل فردناند الموقف فهاجم غرناطة، فردّه أبو عبدالله الصغير عنها ومضى يحاربه، لكنه وقع في أسره. استغل عمه محمد الزغل الموقف أيضا فضمّ غرناطة إلى حكمه. هنا تلاعب النصارى بالرجلين، فاتفق فردناند مع أبي عبدالله الصغير أن يساعده في محاربة عمه لاسترداد ملكه، وكانت الخطة أن يهاجم الصغير غرناطة من جهة الشمال، بينما يتولى فردناند الهجوم من الجنوب. انشغل محمد الزغل بمحاربة فردناند جنوبا، فخسر مالقة كما خسر غرناطة، واتجه نحو وادي آش وأعلنها دولة.

رفض فردناند تسليم مالقة إلى أبي عبدالله الصغير بناء على الاتفاق، متذرّعا بضرورة حمايتها خوفا من عودة الزغل إليها.

وأكثر من ذلك، توجّه إلى غرناطة فحاصرها تسعة أشهر، وأطبق عليها الخناق من كل جانب، وتم الاستيلاء على سبتة ومليلة المغربيتين، فقُطع خط الإمداد من المغرب تماما. قاومت المدينة بشراسة وبسالة، ورفضت الاستسلام رغم معاناة الحصار التي لا تحتملها الجبال الرواسي، وكانت تستغيث بالعالم الإسلامي الذي كان مشغولا بالانقلابات والفتن الداخلية، بينما كان المماليك والعثمانيون غارقين في نزاعات حدودية دامية.

عرض فردناند على الصغير أن يسلّم المدينة مقابل بنود معاهدة زيّنها له، فطلب الصغير أن يُقسم فردناند وإيزابيلا على الوفاء بشروط المعاهدة، فكان الطلب هيّنا. وطلب أن يصادق البابا عليها ففرح بذلك فوافق عاجلا، والصغير يظن أن ذلك سينفعه!!!!

وعندما علا عويل القوم، وأجمعوا على التسليم، مرددين: الله أكبر، لا رادّ لقضاء الله، نهض من بينهم قائد عربي أبيّ هو موسى بن أبي غسان، فصاح بهم: اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن لنا قلوب لم تُخلق لإرسال الدمع، لكن لقطر الدماء، وحاشا لله أن يقال: إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعا عنها. لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشاه، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، وأما أنا فوالله لن أراه. وكان من قبل قد أرسل إلى فردناند الذي طلب تسليم السلاح قائلا: ليعلم ملك النصارى أن العربي قد خُلق للجواد والرمح، فإذا طمع في أسلحة المسلمين فليأتِ لأخذها بنفسه، وليكسبها غالية، أما أنا فقبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموت فيه مدافعا خير لي من أفخم قصور أغنمها بالخضوع لأعداء الدين.

غادر الفارس الأبي صامتا مهيبا عابسا رافعا رأسه، لم ينظر خلفه، توجّه إلى بيته، وامتشق سلاحه، وامتطى جواده، وعبر السور إلى الخارج، فالتقى بسريّة للأعداء من خمسة عشر فارسا على حافّة نهر شنيل، أمروه بالتوقف، فوثب عليهم وثبة الليث، قتل معظمهم، وتكالبوا عليه فكثرت جراحه، وسقط جواده صريعا، فألقى بنفسه في النهر تاركا خرير مياهه يقصّ خبره لأشجار الصفصاف أبد الدهر، وغاص عميقا لثقل الحديد، ولم يعثر له على أثر.

أما أبو عبدالله الصغير، فقد سلّم غرناطة بتاريخ 2\1\1492م، ثم ما لبث أن غادرها كسير الفؤاد، ووقف على ربوة أطل عليها بنظرة وداع لا لقاء بعده، وشهق زفيره الأخير على حضارة دامت ثمانية قرون، وأجهش بالبكاء المرير، فصاحت به أمه:

ابكِ مثلَ النساءِ ملكا مضاعا             لم تحافظْ عليه مثلَ الرجالِ

وأما المسلمون في الأندلس، فقد نقض الأعداء عهودهم لهم كالعادة، وتعرّضوا إلى محنة عزّ نظيرها في التاريخ، وكانت محاكم التفتيش المقيتة لهم بالمرصاد، فاختفى أثر العرب المسلمين في تلك البلاد أو كاد، وما زالت سمرة تلوح في الوجوه هناك تقول: العرب مرّوا من هنا. فهل من معتبر؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى