
سلام على الأمهات
تعود إلى حارتها العتيقة بعد غياب طويل، إذ لم تجرؤ على فعل ذلك بعد وفاة أمها، تشتعل الروح والذكريات إذ ترى الجارات القديمات يصافحن الرصيف ويمشطن المارّة بنظراتهن الذابلة من تعب مشوار العمر.
تشتم رائحة خبز أمها الشهيّة، والزيت والزعتر الذي يعطر الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة صباحاً، تدثرها أمها جيداً وتوصيها أن تضع البنطال داخل الجزمة لئلا يتسخ بالوحل، ولكنها ترفض الوصية بمجرد مغادرتها باب الدار والحارة، إذ تتبعها نظرات أمها ودعواتها، فيذوي لون بنطالها الفستقي تحت طبقات الوحل، وتحترق بالندم طوال الدوام المدرسي، وهي تنتظر أن يجف وتزيل عنه الوحل كي لا تغضب أمها.
تقترب من الجارات، يحدقن بها ويستجمعن الذاكرة المنطفئة بعتم السنين، ثم تضحك التجاعيد في وجوههن، يعانقنها باكيات بحرقة، يا ابنة الغالية، تشرق بدمعها وتستعجل المسير، تُقْبِل على الباب، باب الدار حزين، المدخل كئيب بائس كخراب منسيّ، تصعد درجات السلم القليلة، وقد انكسر بعضها وظل مهملاً، تتمهل تستوقف خطواتها، تعود بالذاكرة أدراج الصبا، هنا ضحكات وكركرة، هناك وَسَن يغفو على صدر الجدّة، وههنا أوراد الجدّ تتردد الصدى، مغمض العينين متكئاً برأسه على الحائط، غائب في ملكوته، وهناك شقاوات متناثرة تحت شجرة الزيتون، وركض مجنون بين جنبات الحاكورة.
تدخل الأم البيت ترتجف يداها من شدة البرد، بعد أن جمعت الماء من المزراب، فهو الأفضل لطهو العدس في يوم شتائي ماطر، وتقول: ” كبٌّ من الرب”، يتسابق الصغار إلى النافذة المتعرقة، يمسحون عرقها البارد بالستارة، ويتضاحكون على المارّة الذين ينزفون مطراً، تنهرهم بأن يبتعدوا فالبرد قارس والمدفأة الصغيرة لا تكاد تدفئ نفسها، يتحلق الصغار حولها يستجدونها جذوةً، ولكنها بخيلة عليهم، فيكتفون بفرك قبضاتهم الصغيرة، والمشاكسة التي تدغدغ أجسادهم بحرارة الشقاوة، خِفية عن الأم المنهمكة في تقطيع البصل والسبانخ، احتفالاً بالطبق الشتائي.
تدخل البيت مُعتماً كقبر وصامتاً كصخر، غادرته الروح إذ غادره ساكنوه، تتجول فيه غريبة مكسورة، تغضّ الطرف عن الحزن المختبئ في الزوايا، وتبحث عن الفرح في ثناياها، فيتسرب من بين أصابعها قطرة قطرة، تتوقف فجأة إذ تسمع دعواها الأخيرة لها بالرضى، تحتضن رضاها الأخير وتسرع بها خارج الدار، تغادر على عجل تجرُّ أذيال الذكرى، وتركض في الشارع ظمأى الروح، ظمأ لا يرويه وابل المطر، ولا المزراب العتيق، الذي انفلت غزيراً ذات عرس على قدور الطعام، وأطفأ نارها.
تركض تلاحق طيفاً، تبحث عنها فتراها ملاكاً توزع كفاف اليوم الشتائي على الجيران، وتفوح رائحة فطائر السبانخ في الزواريب المعتّقة برائحة الطين، فيضيء الفرح بيوت الطيبين، وحقيبة المسافر الذي خبأت له الفطائر بين ثنايا الملابس دون أن يعرف ….
سلام على الأمهات الغائبات
سلام على حضورهن الدائم
في جميل الذكريات
لأرواحهن السلام
وعليهن السلام
كلما شارفت على الرحيل
الأمسيات ….