بلا مجاملة

#بلا_مجاملة

د. #هاشم_غرايبه

من شباك غرفة مكتبي، تلوح أمامي لافتة عتيقة تحمل اسم أحد مكاتب المحاسبة والتدقيق، أذكر أن الكتابة فيها كانت بالأسود على أرضية حمراء، مع الزمن بهتت الألوان فغدت الأرضية صفراء باهتة وقاربت الكتابة على الإمحاء، تصعب قراءتها، فاصبحت مجرد قطعة معدنية رمادية مغبرة، تصر على البقاء في مهب الريح، رغم فقدانها لمضمونها.
لا أعرف لماذا يذكرني مرآها دائما بحال اليسار في بلادنا، فقد كان قديما زاهيا باللون الأحمر، عنوانا للثورية، والتي لم تقنع أحدا سوى “جيفارا”، فسار وراء وهمِ التضامن الأممي ودعم المعسكر الشيوعي للثوار، لكنه لم يعرف الحقيقة الكئيبة (الدعم بالشعارات فقط)، إلا بعد أن وقع بأيدي المخابرات الأمريكية وقضت عليه وعلى حلمه بتحرير جمهوريات الموز من الهيمنة الإمبريالية.
الضحية الثانية للوهم الخادع كانت منطقتنا العربية، اعتقد العرب كونهم مثل دول أمريكا اللاتينية ضحايا للغرب مصاصي دماء الشعوب، أن اليسار يعني انقاذهم من استبداد سلطات أقاليم (سايكس – بيكو)، وحلموا أن يعمل رافعوا الرايات الحمراء هذه (المناضلون ضد الإمبريالية) على تحقيق حلمهم بتولي المخلصين السلطة، من أجل تقدمهم وتحقيق متطلبات الحياة الكريمة لهم مثل باقي خلق الله.
كان خطأ اليساريين العرب الأكبر أنهم وجهوا نضالهم الأساسي ضد الدين عقيدة الأمة، وكان السبب لذلك أمران: الأول أنهم لإصابتهم بالعوز الفكري وعدم قدرتهم على استنطاق الواقع، ولأن معظم قادتهم من معادي الإسلام أصلا، ويبحثون عن بديل فكري له، فقد استنسخوا الأفكار الماركسية من غير التنبه الى أنها غير مطابقة لمقتضيات وضعنا، لأنها خرجت من رحم معاناة الأوروبيين المسحوقين (العمال والفلاحين) من قبل تحالف الإقطاعيين مع رجال الكنيسة، ولم يستوعبوا أن الدين (الإسلام) مختلف تماما عن مؤسسة الكنيسة، كما أنه لم تكن هنالك طبقة ارستقراطية حقيقية عربيا، لعدم وجود قاعدة تصنيعية أو تجارية، بل كانت أسباب معاناة المسحوقين من أمتنا، تسلط الأوروبيين الإمبرياليين على قوت الناس بواسطة الأنظمة العربية وأعمدتها المحلية ، لذا كان القص واللصق لتلك الأفكار في غير مكانه، وباتت ناشزة عن الفهم الشعبي بل ومرفوضة.
والسبب الثاني لمعاداتهم للدين كان لدوافع الأنانيات التنظيمية، فكان منافسوهم الأكبر في الساحة الوطنية هم الإخوان المسلمون، لذلك اعتقدوا أن مهاجمة الأساس الذي يرتكزون عليه وهو الإسلام سيضعفهم ويخفف من الإقبال عليهم.
ورغم أن التيار القومي كان منافسا آخر قويا لليساريين، إلا أنه لم يكن مقلقا، لأنه كانت تنقصه القاعدة الفكرية، فاستورد المفردات اليسارية الإشتراكية في أدبياته.
بقي اليساريون العرب عقودا طويلة يعتاشون على شعارات العدالة الإجتماعية ومقارعة الإمبريالية، ويؤمّلون الجماهير العطشى الى التحرر واستعادة فلسطين الأماني إن استولوا على الحكم، لكن نضالهم عمليا لم يكن سوى صراع على البقاء على جبهتين: قمع السلطة من جهة، ومع الرفض الجماهيري لتبني أفكارهم والإنضمام لهم من جهة أخرى، لذا فلم تكن لديهم خطة عملية للوصول الى الحكم، غير حلم أن تحملهم الجماهير الثائرة إليه حملا.
حصل اليتم والضياع بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، والذي كان ضربة قاصمة للشيوعية وذويها من الماركسيين واليساريين، فتشتت الأتباع وتراجع المؤيدون.
استثمرت الأنظمة حالة الضياع هذه، فالتقطت الشاردين منهم، واتبعت معهم سياسة الاجتباء، فمنهم من استفادت من مواهبهم التنظيرية فأوكلت إليهم مهماتها الإعلامية، وآخرين أهّلهُم كرههم لٌلإسلاميين لتبوء مواقع في الأجهزة الأمنية، بعد إذ لم يعد معارضا في الساحة غير الإسلاميين، لأن القوميين الذين طالما كانوا العنصر الثالث في المعارضة الوطنية، انحازوا بعد الثورات العربية الى صفوف الأنظمة.
وفي النهاية يجب أن أوضح أنني في استخدامي لمصطلحات: القوميين – اليساريين – الإسلاميين لا أعني أحزابا بعينها، بل تيارات قوامها مثقفون يؤمنون بذلك الفكر، وليسوا بالضرورة منخرطين جميعهم في العمل الحزبي المنظم.
وبعد، آمل أن أكون بهذا العرض الموجز لمآلات فصيل وطني كان الشارع يعتبره ذخرا وسندا، قد أضأت زاوية من واقعنا المعاصر، وقد لا يكون فيما أوردته جديد على المطلعين، لكنه في معظمه خافٍ على أغلب الناس.
كما أنه ليس تأريخا توثيقيا، بل هو لمحات تاريخية لما أعرفه وعايشته واقعا، وأزعم أنني كنت منصفا، لكنني لا أدّعي الحياد، فلا يجوز للمثقف أن يكون محايدا إن تعلق الأمر بعقيدة أمته وهمّها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى