“بقالة الشباب”

مقال الإثنين 19-10-2020
“بقالة الشباب”
في العشرين من عمري كنت أحلم أن أصبح كاتباً عربياً مهمّاً ، أحصل على الجوائز وأترشّح لنوبل ، وأهم المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات السياسية تأخذ قصصها عن كتبي، في الثلاثين من عمري فكّرت بإنشاء حزب شعبي يكتسح المشهد بسرعة و يشكّل حكومة بصلاحيات واسعة ويحدث التغيير في البلد ويصبح الوطن علامة فارقة في العالم ومضرب مثل..
الآن “بقالة الشباب” لا تفارق مخيّلتي ، بمكانها الضيق ،وبضاعتها المتواضعة وقارمتها الصدئة ، كل ما أتمناه بقّالة صغيرة ملتصقة في بيتي ، لها “معبور” أي باب داخلي أفتحه وأدخل الى البيت وقت الغداء او عند قضاء الحاجة، ألبس ثوباً رمادياً و”شورة بيضاء” وعقال، ولا بأس أن “يعضّ الثوب” من جلوسي الطويل على الكرسي فأفرده عندما أناول أحد الأطفال غرضه المطلوب،
قطرميزات الفلفل والورص والكمون واليانسون والقزحة خلفي، ومن فرط نسياني أكتب على القزحة بخط اليد “قزحة” رغم لونها وشكلها المميزين، بينما أترك التفريق بين الكمون واليانسون لحاسة الشم.. لا أطمح لأكثر من بقالة صغيرة فيها “ليِف استحمام” ، و”لفة خريص” ،وعصي قشّاطات ، وبطاريات قلم ومشوطة عظم ، فيها بكسة فليفلة حلوة وبكسة بطاطا ،و توالي بكسة بندورة ، فيها ثلاجة صوت ماتورها القديم مزعج جداً فيه “5 دلاوة” رايب بلدي وكرتونة بوظة أم الشلن ،
في وقت فراغي أفرز البيض المكسور عن الصالح وأوجه الطبق للمشترين ، بقالة صغيرة جداً، بحيث لا تأبه بها شركات التوزيع وسلاسل التوريد ، حتى بالعادة أخرج من خلف الدفّ أنادي عليهم لكنهم يمضون مسرعين نحو السوبرماركتات الكبيرة…بقالتي صغيرة جداً، ما زلت أضع صنادبق البيبسي خارجاً من باب الدعاية والاعلان،وكذلك أباريق الوضوء ومكانس القش..مفتاح علب البيبسي مربوط بخيط فوق الثلاجة..و”الغطي” المرمية خارج الدكانة هي “اناليسز” البيع الوحيد لذلك اليوم..
في وقت فراغي أقزدر أمام الدكان و”اشقط الغطي” من باب التسلية..
بقالة الشباب لا تفارق مخيّلتي..بقالة صغيرة جداً تليق بي وبإنجازاتي وبحجم الحلم في بلدي..بالمناسبة “مفتاح الجامع معي”..قبل صلاة العصر والمغرب أسبق المؤذن وأفتح الجامع وأشغّل السماعات نكاية به فتحدث مشاجرة عابرة أنهيها بالنية ” لصلاة سنّة الوضوء “حتى أقطع عليه كلامه ويكظم غيظه ..بالمناسبة لا بأس من كتابة ورقة صغيرة على زجاج الدكان “مغلق وقت الصلاة”..
بقالة صغيرة جداً ودرج خشبي صعب المراس عند التسكير ، أدقق كثيراً عند ارجاعي الباقي للأولاد بين “الشلن والعشرة قروش” فالنظر لم يعد كما كان “والعملة جعلوها متشابهة وماسخة”..كل طموحي بقالة صغيرة تؤمن احتياجات الحي الأساسية فقط..أفتح الراديو على برنامج الفتاوي والقرآن الكريم، لا يوجد عندي تلفزيون ولا أنوي تركيب ستلايت للبقالة أريدها مملة للغاية ..منتهى طموحي..بعد صلاة العشاء أن آخذ الغلة البالغة 8.30 ليرات وثلاثون قرشاَ..أغلق الدرّاج..أطفىء اللمبة الوحيدة ..وأسكر بابها الزينكو الخارجي ،وأعود الى البيت من “المعبور”…
أمنيتي أن أعود الى البيت في أول الليل لا “لي ولا علي”..أتعشّى ، أشرب الشاي بشوق ولهفة..ثم أضع رأسي وأنام قبل أخبار الثامنة..
الدكان: وطني العجوز،رغم لافتته الشابة، الا أن كل شيء فيه هرم حتى حلمي..

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى