سواليف
“الرُّوح عزيزة عند الله”، مَثل شعبي شهير عند المغاربة دلالةً على المكانة الرفيعة التي تحتلها الروح الإنسانية وعدم قدرة القاتل على إخفاء جَريمته مهما طال الزمن، وهذا بالضبط ما حدث لأبوين مغربيَّين قتلا طفلتهما الصغيرة في جريمة هزّت فرنسا منذ 3 عقود. المكان: جانب الطريق السريع A10 قريباً من مدينة “بلوا” وسط فرنسا، الزمان: 11 أغسطس/آب 1987، أما الضحية فكانت طفلة تمَّ حصر سنِّها ما بين 3 و5 سنوات وفق المعطيات التي عمَّمتها الشرطة الفرنسية آنذاك بحثاً عن معلومات عنها وعن والديها، وهو اللُّغز الذي ظل مجهول المعالم طيلة 31 سنة دون أن يتمكن المحققون من فك خيوطه المتشابكة.
العلم في خدمة التحقيق
بعد أزيد من 31 سنة من الجريمة التي هزَّت المجتمع الفرنسي آنذاك، تمكَّن المُحقِّقون، الأسبوع الماضي فقط، من تحديد هوية الطفلة المقتولة التي تدعى “إيناس تولوب”، والمولودة في 3 يوليو/تموز 1983 بمدينة الدار البيضاء سنة واحدة قبل قدوم والديها إلى فرنسا، وكانت الثالثة من بين 7 إخوة مع شقيقتين كبريَين وُلدتا عامي 1978 و1981، بالإضافة إلى 4 أولاد آخرين وُلدوا ما بين 1984 و1991. عيِّنات من الحمض النووي، مكَّنت رجال الدرك الفرنسيين من تحديد هوية الطفلة، التي وُجدت مُلقاة جثة هامدة مع كدَمات ظاهرة على وجهها وأنحاء مختلفة من جسدها، والوصول إلى هُوية والديها، اللذين تم إلقاء القبض عليهما بتهمة القتل والتخلص من جثة، والعنف المتكرر الممارَس ضد طفل دون سن 15 سنة، وفق ما أوردته مصادر الصحيفة الفرنسية “لو فيغارو”. المدعي العام الجمهوري بمدينة “بلوا” فريديريك شوفاليي، كشف خلال ندوة صحفية أن شجاراً بسيطاً وقع بين شبان عام 2016، استدعى إجراء حمض ADN للمتورطين وفق المعمول به، كشف أن أحد هؤلاء الفتية شقيق للطفلة المجهولة التي تم أخذ حمضها النووي والاحتفاظ به عقب تشريحها، فيما أُخذت كذلك آثار الحمض النووي الذي وُجد على ملابسها والغطاء الذي يلفها. وتمكن المحققون من الوصول للبصمة الجينية للوالدين اللذين لم يثيرا أي ضجة عن اختفاء ابنتهما آنذاك، كما لم يبحثا عنها، ما أثار علامات استفهام كبيرة اضطرت معها الشرطة إلى التحقيق رفقة آلاف الأشخاص، فضلاً عن البحث داخل المستشفيات والمدارس ومؤسسات الخدمات الاجتماعية دون جدوى.
تعذيب مُفضٍ إلى الوفاة
تم دفن الصغيرة، التي عُرفت لدى المحققين ووسائل الإعلام الفرنسية بـ”الشهيدة الصغيرة”، في وقت خلُص فيه التشريح الطبي، وفق صحيفة “لوفيغارو” دائماً، إلى أن إيناس التي كانت ترتدي حين العثور عليها بذلة نوم باللونين الأبيض والزهري وملفوفة ببطانية وموضوعة داخل خندق– تعرضت للتعذيب والعنف الشديد. وكشف تقرير الطب الشرعي أن جسد إيناس يحمل آثار ضربات وكدمات متفرقة زيادة على حُروق سببها الحديد، يُرجَّح أنها لمكواة، بالإضافة لندوب وجروح ناجمة عن عضَّات إنسان نتجت عن فك صغير، ما رجّح فرضية أن تكون لامرأة، زيادة على كسور على مستوى الأضلاع، فيما ختم التقرير الطبي كلامه بالقول: “الجسم في حالة لا تطاق، مجروح من الرأس إلى القدمين”.
هنا يرقد مَلاك
إلقاء القبض على والد إيناس، البالغ من العمر 66 سنة، أعاد تفاصيل الجريمة ودوافعها إلى الضوء من جديد، وكشف المدعي العام فريديريك شوفاليي، أن الوالد حكى عن “الجحيم” الذي كان يعيشه رفقة زوجته “العنيفة” معه ومع الأطفال. وكشف الوالد خلال التحقيقات، أنه عاد من العمل ليكتشف أن ابنته فارقت الحياة يوم 10 أغسطس/آب 1987، ليقوم بحمل الجثة ولفها بغطاء ووضعها في السيارة رفقة أبنائه قبل التخلص منها في جانب الطريق وإكمال الطريق في اتجاه المغرب لقضاء العطلة الصيفية. بدورها، أكَّدت الوالدة، البالغة من العمر 64 عاماً، والتي انفصلت عن زوجها عام 2010، أن ابنتها إيناس تعيش بالمغرب، قبل أن تعترف أمام الأدلة وتقول إن ذكرياتها تلاشت بخصوص تفاصيل مقتل ابنتها، وتدعي أخيراً أنها كانت ضحية عنف زوجها وأنها يمكن أن تكون عنيفة ضد إيناس دون أن تكون متورطة في مقتلها. مهما كان الواقف وراء مقتل إيناس وتركها على حافة الطريق، فلن يكون قبر الصغيرة المدفونة ببلدة “سويفر” مجهول الهوية بعد اليوم؛ إذ ستحمل شاهدته اسماً وسنة ولادة ووفاة، تُضاف إلى الجملة المنقوشة على الضريح منذ 31 سنة والتي تقول: “هنا يرقد مَلاك”.