بصيرا مدينةُ الثقافة الأردنية 2019م
في جنوب الطفيلة تتمددُ بصيرا على كَتِفِ هضبة تنداح جهاتُها الثلاثُ إلى واديينِ عميقينِ يصبانِ في أرض الغور تلتصق بهما سلسلتان جبليتان ، إحداهما تسمى الكُوْلا يتخللها بِطاح وسهول ووِهادٌ ورُبى أقحوانيةٌ ، وفي الجهة الرابعة تنفتحُ الطريقُ على مخرج يوصل إلى كلٍّ من ضانا والقادسية وغَرِنْدَل وأمِّ سَراب ، وفيها منابع مائية كثيرة كانت أحدَ أسباب استقرار أهلها فيها ، مثل : عين لَحْظَة ،غَرَنْدَل ، العِبْر ، الجِنَّيْن ، ادْبَيْجَا ، أم سراب ، عين مِلْح ، أم التَّمْر ، البَدّ ، رَوَاث ، الهَوَدِي ، الجَلَدَات ، خِيْرَان، قَرْقُوْق وغيرها ، ومنذ أن اتُّخِذَتْ بصيرا عاصمةً للأدوميين وهي في التاريخ تقفُ بوابةً لتصدَّ عنها عادياتِ الزمان حتى شَرُفَ ترابُها بدماء الصحابي الحارث بن عمير الأزدي مبعوث رسول الله عليه السلام للغساسنة ملوك الشام في صدر الدعوة الإسلامية ، وعلى وقع سيوف مؤتة كان الفتح والتحرير لتكونَ بصيرا بعدئذٍ إحدى حواضر الدولة الأموية ، ومنذاك ينشغل التاريخ بالقواصم من الأحداث فيغفل عنها كما غفل عن غيرها ، وقد اكتست إطلالتها منحًى جغرافيًّا جعلها حصنا منيعا ، إلى أن سكنتها عشائر السعوديين الذين قدموا من أرض الحجاز مرورا بالشوبك موطن بني عمومتهم ( الشوابكه ) أصلا وصليبةً ، وقد شرفوا بانتسابهم للعِترة الطاهرة من آل البيت بجدهم الصالح عزِّ الدين أبو حَمْرَا الذي يعود نسبه إلى سِبْط الرسول عليه السلام الحسين بن علي ، وقد استطاع أهلها مع بدايات الدولة الأردنية المعاصرة أن يشاركوا في بناء الدولة مقدمين شهداءهم الأبرار في معارك الطفايلة ضد حملات الاتحاد والترقي التركية ومنها معركة حدِّ الدقيق ؛ فقدموا خيرة بنيها شهداء : عيد السعودي ، محمد الرفوع ، خلف السفاسفة ، وغيرهم ، وكان لأهلها شرف المشاركة في معارك فلسطين ، وكان آخر الشهداء يزن السعودي الذي ارتقى إلى الملأ الأعلى في أحداث قلعة الكرك الأخيرة .
في مفتتح هذا العام اُخْتِيْرَتْ ألويةُ بصيرا وكفرنجه وذيبان معا مدنا للثقافة الأردنية للعام 2019م ، ولعل هذا الاختيارَ يكشف عن خبايا من الثقافة الوطنية التي هُمِّشَت تاريخيا انحيازا إلى مراكز أخرى لم تحتجْ إلى شهرة إعلامية وصخب ثقافي ، وقد كان في ذلك صحوةٌ لإعادة التوازن الثقافي إلى حقيقته الواقعية ، فلا زالتِ الأمكنة الأردنية تنتظر من يجلي تاريخَها وحركيتها في بناء الدولة وهي تحمل رصيدا ثقافيا غُفِلَ عنه طويلا ، فأن تكونَ هذه الألويةُ عواصمَ للثقافة يعني تجلية مساهماتها في الشعر والقصة والرواية والتأليف العلمي والفنون المختلفة وإحياء تراثها المادي ووضع ذاكرتها على مشاهد المسرح الأردني بعيدا عن الاستعراض الشخصي وتقمص أدوار أهالي هذه الألوية ، ما نريده هو إظهار تشكيلاتها الثقافية و البحث عن أبنائها المثقفين المبدعين والأخذ بأيدي أولئك الذين يبحثون عن خيوط التشابك مع الحراك الإبداعي الأردني والعربي .
بصيرا فيها من المبدعين الكبار الذين لا يحتاجون إلى إضاءات خافتة تتحكم فيها وزارة تتشعب أروقتها غير الثقافية فتقدم من تشاء حسب اعتبارات شخصية ، ولا أنسى في هذا الموطن أن أذكر ثُلَّةً من مبدعي بصيرا الذين يرتقون بإبداعهم إلى مستويات راقية شعرا ونثرا ، منهم : محمد أحمد الرفوع أبو سمور ، د. أحمد عطية السعودي ، محمد الشروش ، عدنان إبراهيم السعودي ، أحمد خليل سلامة الرفوع ، مشهور المزايدة ، د. إسماعيل السعودي ، هاني محمد حمود الرفوع وأخوه الروائي مهند الرفوع ، والشاعرالشعبي ممدوح سمور الرفوع ، والناقد د. محمد سليمان السعودي ، وغير هؤلاء من المبدعين في مجالات الإبداع العديدة الذين احتفظت الذاكرة الشعبية بنتاجهم ، وقد أرجئت مشاريعُهم الإبداعية للبعد الجغرافي وحسابات مسؤولي الوزارة في العاصمة .
إن التفاتة وزارة الثقافة للواء بصيرا وإن جاءت متأخرة لهي التفاتة ينتظر منها أن ترحِّلَ نشاطاتِها إليها وليس إلى مقر الوزارة في عمان ، المطلوب كذلك بحث متواصلٌ في التراث غير المادي وتنشيط السياحة إليها ؛ ففيها ما يغري بالزيارة كضانا وموقع بصيرا الأثري (مركز حضارة الأدوميين) وكنيسة النصرانية الرومانية ، وفي بصيرا أعيانها ورجالها الذين تلقوا المعرفة في مدرسة بصيرا التي بُدئ التدريس فيها منذ مطلع القرن العشرين ، فعندهم ما يمكن أن يُسَجَّلَ ضمن ذاكرة الوطن ، وعندهم ما يمكن أن يُروى من مشاهدات وأحداث وطنية ، فأن تكون بصيرا عاصمة للثقافة يعني أن تكون وطنا للثقافة وثقافةً للوطن كما كانت منذ البدء قلعةً ودرعا .
المطلوب من القائمين على إدارة الحركة الثقافية في بصيرا أن يعملوا على إنشاء مركز ثقافي يشتمل على مسرح وقاعة ندوات ومُتْحَفٍ ومعرض رسم دائم ، وينهضوا بتكريم أصحاب المواهب الثقافية والفنية والرياضية ، وتأسيس فرق للمسرح والسامر وملتقى للمثقفين ، وإقامة المسابقات في مختلف ضروب المعرفة للأطفال خاصةً لعلنا نضع البذرة الأولى في إنشاء أكاديميات ثقافية فنية رياضية ، فقد تبين أن جهود عواصم الثقافية من قبلُ تنحصر في طباعة كتب – بلا تحكيم علمي حقيقي – تحفظ على رفوف الوزارة أو في مستودعاتها يعلوها غبار النسيان القاتم ، حتى أضحت مصادر لتنفيع أشخاص على حساب الثقافة وأهلها ، إذ كان تشكيل اللجان موقوفا على حسابات مصلحية ، ما يريده المجتمع هو حراك ثقافي فني سياحي حقيقي وليس استعراضًا صوريا صوتيا مكرورا.