بصراحة

بصراحة
د. هاشم غرايبه

من ذكريات فترة دراستي الجامعية في بغداد قبل ما يقارب نصف قرن، حادثة لا أنساها.
كنا نتنزه ليلا على الشط، وجذبنا صوت غناء جميل لجماعة يسهرون، فجلسنا معهم، وكان هنالك فتى بجوارنا يبيع (اللبلبي) المشهورة على عربة، وهي عبارة عن حمص مسلوق، يتسلون به مساء، مثلما يتسلى أهل مصر على شاطئ النيل بالترمس.
كان المغني يحكي في أغنيته قصة حب حزينة لشاب بغدادي أحب صبية كردية كانت جارة لهم، ثم رحل أهلها الى الشمال فانقطع تواصلهما.
فجأة رأينا الشاب قد هاج وقد انتابته سورة عصبية، وقلب عربته ونثر الحمص على الأرض، وهو يصرخ باللهجة العراقية الجميلة: بألله دا يحكي عني..هاذي قصتي آني.
قام الحاضرون يهدئونه، وبذلوا جهدا كبيرا الى أن أجلسوه معهم وأكرموه، حتى عاد الى طبيعته.
الشعوب العربية عموما جميعها عاطفية، تثور فجأة، لكنها سريعا ما تهدأ وكأن شيئا لم يكن، ولذلك تعود السياسيون سوقها لغاياتهم بمعسول الكلام، ربما كان العراقيون والمصريون هم الأكثر اتصافا بذلك، لذلك وجدناهم يسرفون في الثقة في حسن إدارة حاكمهم، ويأملون الخير ممن لا يرتجى منه خير أصلا.
لذا وجدنا هاتين البقعتين العربيتين، ورغم أنهما كانتا مهد أعرق الحضارات البشرية، إلا أن واقعهما الحالي لا يوحي بذلك إطلاقا، مما يدل على حجم الإفساد الذي نالتاه من قبل حكامهم.
قد نفهم أن مكانة مصر الهامة جعلتا لها حسابات خاصة لدى قوى الغرب المعادية للأمة، لذلك يجب أن لا ندهش من أنها لم تدخل في خرائط الإنتداب، مثل بلاد الشام والعراق، بل جعلت لها خطة أخبث، من خلال الإحتواء والتوجيه للثورة على النظام الملكي عام 1952 المنصاع لأوامر السفارة البريطانية، كان التخوف الأول من تحولها الى نظام إسلامي بسبب نفوذ الإخوان المسلمين بين الضباط الأحرار، مما سيؤدى الى المحذور وهو وحدة الأمة من جديد، لذلك أطمأنت بريطانيا عندما تم وأد ذلك منذ السنة الأولى وأطيح بمحمد نجيب، ثم بسلسلة تدابير مؤامرات مزعومة تم القضاء على قياداتهم.
في منتصف الخمسينيات كان فترة الصعود الإمريكي، والذي طرد أسلافه الأوروبيين من المنطقة، ليحل محلهم، ولما أحس الإنكليز بالخطر حاولوا إقامة حلف بغداد، لكن الأمريكان تحركوا فتغدوا بهم قبل أن يتعشى الإنكليز، فأفشلوا الحلف وأوهموا القوى الوطنية الساذجة أن سقوطه وطرد كلوب من قيادة الجيش الأردني كان استجابة لنضالهم، كما اعتقد الوطنيون المصريون بسذاجة أيضا أن فشل العدوان الثلاثي كان بفعل المقاومة البطولية في بورسعيد، وليست بسبب الإنذار الأمريكي الصارم، مثلما اعتقد الوطنيون العراقيون ببراءة أيضا أن ثورة 1958 تحررية للخلاص من نوري السعيد والنظام الملكي العميل لبريطانيا، وليس لقطع دابر شركة (IPC) البريطانية من العراق.
مشكلة امريكا أن هنالك مستفيدين غير مرغوب بهم دائما من مؤامراتها، فتعزيز نهج عبد الناصر الإستئصالي للإسلام لم يحقق مصالح الغرب بالكامل، لأنه عزز التوجه القومي، والذي عزز مكانة عبد الناصر الزعامية في المنطقة العربية، والتي خشوا أن تحقق الوحدة على أساس قومي، لذلك أغروا به بداية عملاءهم من الأنظمة العربية القلقة من استحواذ عبد الناصر على قلوب وولاء شعوبها، لكن ذلك لم يفلح، فاستغلوا نقطة ضعفه وهي النرجسية فأحاطوه بعملائهم ودبروا مؤامرة حرب حزيران التي ستنتهي بهزيمته وبالتالي سقوطه، ولما لم يسقط، لذا وبمعاونة العملاء ذاتهم تخلصوا منه بالتصفية، ومن يومها تعلموا أن المجازفة مكلفة، فلم يسمحوا بعده بوصول حاكم الى مصر يعرض خططهم للخطر.
العراق ظل انضباط حكامه وفق المخططات الأمريكية متذبذبا ومشوبا بالخطر أيضا، فقرروا التخلص من صدام خوفا من عودة ظاهرة عبد الناصر من جديد.
وكما عبد الناصر أيضا، سهلت نرجسية صدام الأمر عليهم، فاستغلوا الحقد الشعوبي الإيراني، الذي أجج الطائفية في العراق التي كانت العامل الأول في نجاح احتلاله.
ولما كان الإحتلال المباشر مكلفا، لذلك انسحبوا تاركين الحكم لعملائهم الفاسدين، فاجتمع على خراب العراق طغمة جمعت بين الفشل والفساد والعمالة، وما يبقيها إلا استغلالها لعاطفة التعصب الطائفي التافهة.
لذلك ضمن الواقع الحالي سيبقى هذان القطران العريقان حضاريا والغنيان أصلا بمواردهما البشرية والطبيعية في ذيل الأمم، مالم يقيض الله لهما من أبنائهما من يستعيدهما من أيدي من باعوا وطنهم، وأي ثمن قبضوه هو بخس مقابل عزة الوطن وكرامة المواطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى