إيرينا بوريسوفا
الترجمة من الروسية: د.باسم الزعبي
لم يبق في العالم أغانٍ رخيصة، إنما نسخ هزلية منها، لم يبق هناك رومانطيقيون في العالم، إنما مديرون، لديهم القدرة على تنمية المال. يجلس الرومانطيقي الأخير في «كابينة» الهاتف، عند موقف سيارات على أطراف مدينة «سياتل»، إنه يتاجر بالسيارات المستعملة، وأثناء الاستراحات، ما بين زبون وآخر، يذهب إلى الإنترنت ليكتب لي رسالة.
ظهر على جهازي في لحظة انكسار كبير، عندما راحوا يطبعون كتابي الذي لم أكن أنتظر نشره، بشروط لم يكن بإمكاني الموافقة عليها؛ فأصدقائي الغربيون الذين كنت أتوقع منهم الإقدام للدفاع عني، صمتوا، ورحت أجلس فوق السجادة الملفوفة في المبطخ (كنا لتوّنا قد انتقلنا إلى هذا البيت) رافضاً العرض الحقير، واقتربت من الكمبيوتر بأمل كبير، وقد كنت محبطة تماما، فلم أجد في صندوق البريد الرسائل المهمة والجادة التي كنت أتوقعها، إنما بطاقات، وخواطر، ونكات، من بايرون ديلي.
العالم الكبير والعالم الصغير تبادلا المواقع: في العالم الكبير تتضافر، كما في المطبخ العمومي، الأحاديث حول البضائع والأسعار، وما جرّ جرهما من هذا الكدر، أما العالم الخاص فقد اتسع، وتمدد خلف البحار، ويمكن مناقشة قضايا دولية مع صديق أميركي، والاستماع (الأدق، قراءة ذلك عبر البريد الإلكتروني) إلى خطابه الحماسي حول بناء المستقبل (لا مستقبله، بل مستقبل العالم أجمع).
من أين لك أن تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك: أنت لا تفكر، وأنت توقع عقدا مع ناشر غربي، بأنه- إنني أرميه؛ مليونير شاب، لا يُردّ، مثل رجل المشاة البحرية «هيو غرانت»، الذي جاب فيتنام، ويبتسم بخبث إذا ما قيل له إنه سوف يعيش على الإعالة، والعمل بشكل غير شرعي في محطة حافلات، من أجل أن يدفع أجرة سكنه، وأن زوجاته سيتفرقن وغيرهن من الحسان، ولا يعرج عليه، ربما، إلا عاهرة زنجية مرّ عليها كل الأشكال.
يمكن بالطبع التساؤل: «لماذا»، ويمكن التذمر من هذا وذاك؛ فالزمن، بكل بساطة، ليس للّهو، لا بد من احترام الرقم المجرّد، لا السفر بسرعة فائقة في سيارة «البورش»، ملقيا على شرطة المرور شتيمة أميركية سافلة.
وهكذا تدهور ولم يتوقف عن ملاحقة العقود المشبوهة، ولم يتخلَّ عنها في الوقت المناسب، أما عندما يتذكر فجأة أن عليه التخلص منها من خلال بنك مفلس، فإن رجال القضاء والمخبرين يلقون القبض عليه متلبسا، ويزجون بالمسكين في السجن، دافنين نجاحاته بطست نحاسي.
وماذا الآن؟ الآن يبقى فقط التذكر، كيف سافر عبر الكاريبي على يخت، مطلقاً الخرافات العائلية حول الجد، وأنه رجل عصابات من «ديترويت»، مجادلاً حول ضرورة التحالف الأميركي-الروسي في مواجهة الإرهابيين من أجل إنقاذ العالم، وأنه كثيرا ما يصادف أن يكون حزينا، وأنه غاضب جدا، بالرغم من أنه نادرا ما يشكو.
ما إن أدْخُلَ إلى الشبكة، كل مساء، حتى أجده هناك، كعادته. قاومت حتى النهاية، لم أكن أرغب بالدخول في علاقة ثرثرة فارغة، لكن، في نهاية المطاف، فقد استُدرجت إلى طرفة عن القزم الذي كان قد طُرد من شاطئ لا شيء ممتع فيه بسبب أنه دس أنفه في أماكن ممنوعة، وضعفت وتحدثت عن أحوالي، مدركة مسبقا، أن ذلك لا يفيد في شيء.
ومن جانب آخر، لماذا يتحتم على أحدهم أن يقدّم لي المساعدة؟ هذه عادة سوفياتية، أن تكون مسكينا وتعسا، وأن يكون الجميع مدينا لك. أنت تسكن حيث يطيب العيش، وتعمل ما يطيب عمله، هكذا هي الأمور ببساطة.
وما الفرق، في نهاية المطاف، مليون قارئ أم مائة، أو حتى قارئ واحد، إذا ما كان العمل قد نفذ إلى العمق.
وهكذا نحن نكتب كل يوم، لدى كل واحد منا شيء ما: لدى أحدهم على الغداء شيبس وسندوتشات من التونا، وآخر يطبخ حساء من سمك الكارب، الذي جلبوه من المنزل الريفي. يرسل المقالات الصحفية، التي لا يوجد لدي وقت لقراءتها، ومع ذلك يرجوني: «اقرئي»، ويقول، إنها ليست طويلة، ولا يوجد لديه من يشاطره أفكاره. وأحيانا يتخيّل: «ها أنا أعود إلى روسيا، أنظّم الكادحين في نقابة عمالية، وأحارب المافيا الروسية» (المافيا الروسية ماتت من الخوف فعلا!).. يحلم بالإبحار على قارب أرجواني إلى حسناء روسية متواضعة، تحبه بدورها لأجل حياته العاصفة. لكن، وبما أنه قتّر بالنقود التي كان سيشتري بها القارب؛ فإن الرسائل ظلت تُكتب لي للسنة الخامسة، فهل بإمكانك أن تقف ضد مثل هذه المثابرة؟
هذا، في الحقيقة، كل شيء. إذا لم يتحقق ما تريده، فخذ ما هو متاح، واقنع نفسك أنه ليس سيئا. كل الطرق تقود إلى مكان ما، وهي تقدم لك شيئا ما، حتى لو تحطمت الأحلام، فكن، أيها القارئ، قنوعا، متواضعا ولا تشمخ بأنفك.