سواليف
في قصة مطولة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، بعنوان “الأطفال المفقودين من توام”، يكتب دان باري، حكايات عن “بيت الأمهات العازبات وأطفالهن” في مدينة توام الإيرلندية، والقصص المثيرة التي وقعت فيه، في النصف الأول من القرن العشرين. في تلك الفترة كنّ النساء اللائي يحملن دون زواج يرسلن إلى هذا البيت كنوع من العقاب على فعلهن، حيث
يعملن كخادمات هناك وفي المرافق المجاورة، ويتم إعادتهن لأهلهن بعد عام على الأقل يكن قد “تأدبن” خلاله.
لكن أطفالهن الرضع الذين يتم إنجابهم في فترة المكوث ببيت الأمهات العازبات، كانوا يعيشون في ظروف سيئة للغاية، ومروعة لدرجة أن المئات منهم ماتوا جراء الإهمال شبه المتعمد. وفي العادة فإن هؤلاء الأطفال وعندما يموتون كان ينظر إليهم على أنه من العار دفنهم في المقابر المحلية لعامة السكان من الشعوب الكريمة، حيث يعامل وضعهم باعتباره مخجلاً جداً.
قبل عدة سنوات، اكتشفت مؤرخة إيرلندية تدعى “كاترين كورليس” القصة الحقيقية التي تتخفى وراء منزل توام، وذلك بعد سنوات من البحث والتقصي المضني، وقصة شخصية أيضا ترتبط بتاريخ عائلتها. وكانت كورليس قد بدأت بحثها بالحصول على 200 عينة عشوائية من شهادات وفاة الأطفال الذين ماتوا في منزل توام، ومن ثم قامت بمراجعة هذه الشهادات مع أسماء المدفونين في مقبرة توام الرئيسية والمسجلة في كتابين كبيرين، لتكتشف أن طفلين فقط من المجموعة مدفونان بمقبرة المدينة.
وفي ديسمبر 2012 نشرت كاترين ملخص ما توصلت إليه في مقالة باسم “المنزل” في المجلة التاريخية لمدينة توام، حيث قدمت تاريخاً حول هذا المرفق العام، ومن ثم خلصت إلى نتائج بحثها، بما في ذلك سجلات الدفن المفقودة ومن ثم قصة خزانات الصرف الصحي التي عثر فيها على عظام بعض الأطفال.
المقالة الجريئة لكاترين، كانت قد طرحت أسئلة جريئة، هل قامت أولئك النسوة العاملات داخل المنزل بدفن هؤلاء الأطفال الرضع داخل أنظمة الصرف الصحي؟ وغيرها من الاستفهامات غير الواضحة الإجابة.
وقام الصحفي الأميركي “دان باري” مؤخراً بزيارة إلى توام، لمتابعة هذه القضية من خلال القصص المعروفة إلى اليوم حول مصائر أطفال مجهولين ولدوا داخل منزل الأمهات العازبات، في وقت كان فيه القانون الإيرلندي يعاقب النساء على الحمل غير الشرعي، حيث يعتبر جريمة ضد القانون يستحق المرء إزاءها عقوبة العزلة عن المجتمع. ويقدر عدد الأطفال الذين دفنوا في المجاري بـ 796 ضحية، ذنبهم فقط أنهم ولدوا بطريقة غير شرعية، وفي ذاك الوقت لم تكن الباحثة كاترين سوى طفلة تتمشى بين الحقول، وهي التي فتحت النقاش منذ سنوات حول هذا الموضوع المثير، ليبدأ الإيرلنديون يتساءلون، من نحن بالضبط؟ من نكون؟! ما تاريخنا؟!
كاترين الآن في الـ 63 من عمرها، وتتذكر بقوة أيام المدرسة وقتذاك، وكيف أن الايرلنديين لهم احتفاء خاص بطقوس الموت، يتمثل ذلك في احتفالهم في شهر نوفمبر من كل عام بالأرواح في طقس خاص مع الشراب، في اعتقاد أن الموتى سوف يعودون لأهلهم في البيوت التي جهزت وأعيد ترتيبها بعد نظافتها كاملة.
لقد راقبت كاترين من طفولتها كل شيء تقريبا عن تلك القصص المؤثرة عن الأطفال الضائعين، من باتريك ديران، الذي توفي في عمر خمسة أشهر في عام 1925، إلى ماري كارتي، التي توفيت في خمسة أشهر في عام 1960، وهو تقريبا التاريخ الذي تتخفى وراءه كل القصة ما بين هذا العامين. ويعود تاريخ بناء منزل توام الذي وقعت فيه هذه الجرائم، التي اكتشفتها كاترين، إلى عام 1846 وكان في البدء يستقبل الجوعى والفقراء، ولاحقا أصبح ثكنة عسكرية لخدمة الحكومة الإيرلندية الجديدة التي تشكلت بعد معاهدة بين المتمردين الإيرلنديين وبريطانيا العظمى في عام 1921، وعلى جداره أعدم ستة من معارضي الاتفاق. ومن ثم أعادت الحكومة بناء المبنى ليكون من بين المؤسسات التي تهدف إلى أن تصبح من موانئ الخلاص التعسفي للنساء المنكرات في المجتمع، بحيث تموله الدولة ويدار من قبل الكنسية ويخدمن فيه الراهبات.
كان الحمل غير الشرعي في تلك الفترة ينظر إليه ليس كعيب أخلاقي فحسب، بل أيضا يتعلق بمسائل اقتصادية بحتة كميراث الأرض، لأن هذا الطفل الجديد سوف يخرب خطة العائلة في توزيع الأراضي والمزارع. وإذا سلمت الأنثى الحاملة من الادعاء بأن الطفل لشقيقتها أو تمكنت من الهرب إلى إنجلترا فسوف يكون ملاذها الأخير تلك الدار حيث نظام صارم من التقاليد ذات الجذور الفرنسية. ويوصف الوضع هناك بأنه حفرة فظيعة، وحشية، حيث تثقل الأم بالواجبات التي ينبغي القيام بها كخادمة فبعد تناول عصيدة الصباح والشاي الروتينيين، يكون على الأم أن تنظف طفلها ومن ثم تمسح الأرضيات وتغسل الملايات القذرة الملطخة بالبول، وغيرها من التكاليف.
وتصف جوليا كارتر ديفاني التي عملت بالمنزل لمدة 40 سنة على الأقل والتي توفيت في عام 1985 في شهادات مسجلة لها، الحياة في ذلك المكان القاسي، وتروي العديد من القصص لأمهات أرسلن للدار وكيف وظفن في أشغال بالدار وأماكن أخرى مجاورة مثل المستشفيات، وكن يبذلن أنفسهن بهدف أن يكن قريبات من أطفالهن وبرغم ذلك يمنعن من رؤية الصغار.
وبرغم أن الأطفال يتقبلون هدايا من بعض الناس، في مناسبات كأعياد الميلاد، إلا أن الأهل لا يكونون ضمن هؤلاء المتبرعين، فقد عاش الأطفال في ظل غياب المودة وصلة الرحم، حيث تصفهم جوليا كـ “الدجاج في الحظيرة”.
تبدأ قصص اكتشاف الفظاعات في عام 1975، مع ماري وهي أم متزوجة شابة تعيش في واحدة من المنازل المدعومة الجديدة التي بنيت على أنقاض ممتلكات المنزل القديم للأمهات العازبات وأطفالهن، ففي إحدى الصباحات أيام عيد الهالوين، أخبرها أحد الجيران أن ولدها يركض جوار المنزل بجمجمة محمولة على رأس عصا.
الصبي واسمه مارتن قال إنه وجد “جائزته” هذه وسط الوحل تحت الأعشاب، وأن هناك المزيد في المكان نفسه.
وتتذكر ماري أنها قالت للولد: “ارجعها إلى حيث كانت هذه ليست لعبة بلاستيكية كما تتصور”. وكان من الواضح أنها رأس صغيرة بأسنان مكتملة.
وتبعت ماري والجيران الصبي خلال الأعشاب والأنقاض، عبر الأرض الرطبة الناعمة، إلى أن فجأة بدأت الأرض تحت أقدامهم تصبح أكثر هشاشة، ليظهر كهف أو نفق، مع ما يكفي من الضوء لإلقاء نظرة قاتمة على المشهد تحت الأرض، حيث ظهرت حزم صغيرة مكدسة واحدة فوق الأخرى وملفوفة في أقمشة رمادية.
كان المشهد مروعاً فقد احترق عقل ماري لما تراه في ذلك الصباح، جماجم الأطفال، لكن القصة الكاملة لم تكتمل إلا فيما بعد قبل سنوات قليلة مع كاترين.
في مقابل الألم القديم فإن العديد من الناجين من تلك الأيام لا يحملون سوى ذكريات سطحية بسبب تقادم الزمن وصغر السن، ومن هؤلاء رجل في السبعينات من عمره، لكنه يتذكر كيف أنه وزملاءه كانوا يشاهدون أنفسهم في مرايا السيارات الواقفة فلا يعرفون هل هؤلاء هم أم أناس آخرين.
يقول: “لم نكن نعرف حتى إن ذلك انعكاس لأنفسنا في المرآة”. “كنا نضحك على أنفسنا”، يقولها ضاحكاً.
وإلى أن يتم تبني الطفل فقد يرسل إلى مدرسة تدريب، وكانوا في الطريق إلى المدارس ينادون الجميع في الشوارع على أنهم آباؤهم وأمهاتهم، يصيحون فيهم “بابا”، “ماما”.
وفي المدرسة كان المعلمون يعاقبون الطلبة غير المنضبطين بوضعهم بجوار أطفال المنزل غير الشرعيين، حتى يعودوا لرشدهم، كما أن الآباء كانوا يهددون أولادهم بأنهم إذا أصبحوا سيئين فسوف يرسلون إلى هناك.
ويقول كيفن أودوير البالغ من العمر 67 عاما، وهو مدير متقاعد نشأ على بعد أمتار قليلة من المنزل: “كانوا أبناء الشيطان”.. “تعلمنا ذلك في المدرسة”.
ويتذكر كيفن أنه مرة استهدفه بعض الصبيان الفتوة خلال عطلة المدرسة، فهب لنجدته واحد من أطفال المنزل غير الشرعيين، فصرخت فيه فتاة أكبر سناً بأن لا يتدخل ويتركه وحده لأنه لا يحق لهذا “الشيطان” التدخل.
في سبتمبر من عام 1961 كان إعصار نادر وشرس قد ضرب جميع أنحاء إيرلندا، وأسقط خطوط الكهرباء، ودمر حقول الشعير، وانهارت كذلك الأكواخ، وتطايرت سقوف منزل الأطفال، لتكون تلك ساعة سعد بأن تغلق تلك الدار إلى الأبد، بعد أن قررت مقاطعة غالواي عدم التجديد للمنزل، لاسيما أن العاملين عليه لم يكونوا مدربين بما يكفي.
تم تشميع المبنى الهائل، وحتى الكنسية المجاورة أصبحت مرتعاً للعب الأطفال، ومع مضي السنوات تقدمت المقاطعة بمشروع لهدم المنزل وبناء بيوت مدعومة مكانه للفقراء، لتسكن مكان أصوات الأطفال وصراخهم هسهسات الأشباح الليلية لجماجم الصغار المدفونة في المكان.
كيف توصلت كاترين للقصة؟
بالنسبة لكاترين فهي لا تزال تتساءل ما الذي قادها إلى قصة هذا #المنزل وتتبع أثره! هل هو شيء متعلق بالذكريات والماضي والمكان، حيث نشأت على بعد 140 كيلومترا من توام أم أنها قصة أخرى؟!
الإجابة.. إنها كانت قد تخرجت من المدرسة الثانوية، والتحقت بكلية الفنون في غالواي، ومن ثم عملت كموظفة استقبال في عام 1978، إلى أن تزوجت من ايدان كورلس، رجل خجول وعاشق للفن، وقد أنجبا أربعة من الأبناء.
وبعد وفاة والدتها في 1990 في سن الـ 80 كانت قد تركت أسراراً وألغازاً حول حياتها ولم يكن لها من أحد قريب بالمعنى الواضح، ما دعا كاترين أن تذهب لتفسير هذه الأمور التي ظلت تسكت عنها الأم لسنوات طويلة وابتدأت بالسجلات المدنية لتكتشف أن والدتها مكتوب في خانة والديها بشهادة ميلادها، أنها بلا أب، فقد جاءت والدتها خارج نظام الزواج.
هذا العالم فتح لكاترين التفكير في أمور عديدة وأثار لديها أسئلة حول من نحن؟ وفهم الوقائع التي تحركنا في الإطار الاجتماعي.
ومن ثم قادها هذا لدراسة التاريخ المحلي، إلى أن تكلل ذلك باكتشافها حول مقبرة توام ذلك اللغز الكبير.