سواليف
من خلال العائدات التي يحققونها في لاغوس وأبودجا الإفريقيتين، يشيّد المهاجرون اللبنانيون منازل وفللاً فاخرة في قرية مزيارة شمال لبنان.
على بُعد ساعتين بالسيارة من العاصمة بيروت تجاه مزيارة، تمتد المناظر الطبيعية الخلابة على امتداد الساحل نحو الشمال، حيث الطرق الجبلية الوعرة، مروراً ببساتين أشجار البرتقال وحقول أشجار الزيتون.
في الميدان الرئيسي لمزيارة، تجد كنيسة مشيدة من الأحجار القديمة، وحولها متاجر بقالة محلية وصورة كبيرة لرئيس الجمهورية اللبناني، ما يجعل أي زائر يعتقد أنها مجرد قرية مسيحية عادية.
وحينما تتعمق في الداخل، تتجلى الصورة السريالية، حيث يندهش القادم إليها من مئات الفيلات والقصور الفاخرة ذات التصميمات المذهلة، التي تذهل العيون: أهلاً بالزائرين في قرية مزيارة.
يتوسط المنطقة هنا، منزل كبير على شكل هرم مصري، ذو نوافذ صغيرة مربعة، يؤوي الطالب أسامة ريموند شاجوري، البالغ من العمر 21 عاماً، ووالدته وأشقاءه الخمسة، بينما يعمل والده في مجال الدعاية بنيجيريا.
ويقول شاجوري: “يرى العديد من الناس أن منزلنا غريب ويطرحون الكثير من التساؤلات، ولكني أراه طبيعياً للغاية. ولا علاقة له في الواقع بمصر؛ ولكن فكرة العيش في منزل له جدران مائلة أعجبت والدي للغاية”.
ويعد المنزل الأكثر غرابةً في القرية، الذي اتخذ نسخة طبق الأصل من طائرة “إيرباص أ380″، والذي يطلق عليه الأهالي عبارة “المنزل الطائرة”. وقد شيّد المنزل زوجان خلال السبعينات من القرن الماضي، فيما يعيشان حالياً في أستراليا؛ ويضم المنزل طابقين و41 نافذة على كلا الجانبين، بالإضافة إلى مقصورة الطائرة وعجلات الهبوط.
وعلى امتداد الطريق، هناك قلعة مكونة من 4 طوابق تضم مجموعة من أبراج العصور الوسطى والأروقة العثمانية والنوافذ الحديثة، بينما اختارت أسرة أخرى الاستقرار بمعبد يوناني يضم 8 أعمدة على الطراز الكورينثي اليوناني.
العلاقة بنيجيريا
نظراً لأن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي يكاد لا يتجاوز 8000 دولار سنوياً، فإن أسعار تلك المنازل تثير الدهشة بصورة أكبر من هيكلها المعماري.
وذكر فادي عبود، مهندس معماري من أبناء القرية، أن “تكلفة بناء أي منزل هنا لا تقل عن مليوني دولار”.
وعلى غرار القرى المحيطة، يعتمد الاقتصاد المحلي لقرية مزيارة على السياحة والزراعة وبعض الخدمات. ومع ذلك، فإن ثرواتها الهائلة تأتي بصفة رئيسية من نيجيريا.
ويتحدث نائب العمدة بصورة مباشرة عن ذلك الأمر، ويقول بلهجة إفريقية فرنسية: “تم بناء كل الفيلات من خلال الأموال القادمة من نيجيريا. ويعتمد اقتصادنا بالكامل على الهجرة إلى غرب إفريقيا،. حيث يعمل 80% من أبناء القرية حالياً هناك؛ لأنهم يحققون أموالاً أكثر مما يحققونها هنا”.
ويعمل المهاجرون اللبنانيون في القطاعات كافة، بما في ذلك التجارة والاتصالات والضيافة والطاقة والبناء، حتى إن ابن نائب العمدة وابنته وأشقاءه الثلاثة يعملون حاليا في نيجيريا.
التباهي
من خلال الأرباح التي يحققونها في لاغوس أو أبودجا، يعشق المهاجرون اللبنانيون من قرية مزيارة تشييد الفيلات الفاخرة.
وأوضح دعبول: “لماذا؟ لأننا نحب التباهي. فالمنزل الكبير وسيلة للتظاهر بأنك ثري وناجح”.
فحينما حقق ابن عمّه إلياس نجاحاً هائلاً في قطاع النفط النيجيري، قام بتشييد أكبر منزل بالقرية بتكلفة 20 مليون دولار. وتبلغ مساحة القصر 2000 متر مربع ويضم 30 غرفة نوم وحمام سباحة وقبة وتماثيل وأرضيات رخامية وأبواباً من الخشب المنحوت وأسقفاً مركبة.
وذكر أحد الجيران الذي لا يبدو مندهشاً من إغلاق نوافذ المنزل بصفة دائمة: “إنه لا يقضي ساعة واحدة في هذا المنزل”.
وتعد معظم منازل مزيارة غير مأهولة، إلا أنها تعتبر وسيلة تعبر من خلالها عائلات المهاجرين عن الإنجازات التي حققتها دون أن تقطن فيها.
ويشعر نائب العمدة بالثقة بعودة ملاك تلك المنازل من الأثرياء يوماً ما في المستقبل إلى القرية.
وقال: “نراهم بعض الوقت سنوياً في المناسبات الخاصة مثل الكريسماس أو العطلات الرسمية. إفريقيا ليست كالولايات المتحدة أو أوروبا. فهي مكان للعمل فقط، ولكن الحياة هناك ليست رائعة؛ ولذلك، فإننا نعود دائماً إلى لبنان”.
بلد الشتات
ويرى معظم اللبنانيين أن تحقيق النجاح بالخارج يبعث على الفخر. فالدولة تضم مهاجرين من أماكن مختلفة يتجاوز عددهم 10 ملايين نسمة، مقارنة بـ4 ملايين فقط على أراضيها.
ويؤثر ذلك تأثيراً كبيراً على الاقتصاد اللبناني. وفي عام 2015، كان 16% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي بالبلاد يأتي من التحويلات الشخصية للبنانيين العاملين بالخارج.
وينص تقرير حديث صادر عن صندوق النقد الدولي على أن “متوسط تحويلات العاملين بالخارج وصل إلى 7 مليارات دولار خلال السنوات العشر الماضية، ما يجعل لبنان واحداً من أكبر 20 دولة في هذا المجال. ويتصدر لبنان القائمة بهامش كبير”.
وإذا كان أغلبية اللبنانيين المهاجرين يعملون بالبلدان العربية الأخرى، فإن التقرير يذكر أن تحويلات العاملين في إفريقيا تمثل 15% تقريباً من إجمالي التدفقات النقدية.
ويبلغ عدد اللبنانيين المقيمين في نيجيريا 30 ألف مواطن وفقاً لتقديرات وزارة الشؤون الخارجية، بينما ترفع تقديرات أخرى هذا العدد إلى 75 ألف مواطن.
وفي حالة مزيارة، فقد استقر المهاجرون اللبنانيون للمرة الأولى بنيجيريا في الثلاثينات من القرن الماضي، ومن بينهم والدا أشهر رجال القرية.
جلبرت شاجوري: الطفل المعجزة بقرية مزيارة
ولد شاجوري عام 1946 ويعمل رئيساً لمجموعة شركات شاجوري متعددة الأنشطة التي تضم أكثر من 10 آلاف موظف في مجموعة من القطاعات المتنوعة، ومن بينها العقارات والاتصالات والرعاية الصحية ومطاحن الدقيق.
وتتولى المجموعة حالياً المسؤولية عن تطوير مشروع إيكو أطلانتك، وهو أكبر المشروعات العقارية في غرب إفريقيا. ويمتد المشروع على مساحة 10 ملايين متر مربع على ساحل لاغوس. ومن المتوقع أن يستوعب هذا المشروع الفاخر الجديد 400 ألف ساكن من الأثرياء، بالإضافة إلى مكاتب إدارية وشركات لتجارة التجزئة.
ويتجاوز حجم أصول شاجوري 4 مليارات دولار، ما يجعله واحداً من أكبر أثرياء إفريقيا. ويحظى رجل الأعمال بنفوذ هائل وتربطه علاقات شخصية بعائلة كلينتون بالولايات المتحدة.
وتتضمن سيرة شاجوري الذاتية الكثير من التفاصيل المثيرة للدهشة. فقد عمل سفيراً لجزيرة سانت لوسيا بالبحر الكاريبي في منظمة اليونسكو بباريس وسفيراً لدى الفاتيكان؛ وعمل أيضاً مستشاراً اقتصادياً لرئيس بنين السابق ماتيو كيريكو.
ويعد الملياردير من هواة الفن خلال وقت الفراغ، وقد قدم تبرعات سخية إلى متحف اللوفر بباريس حتى تم تسمية معرض فني دائم اسمه.
ومع ذلك، فهناك جوانب أخرى مظلمة في مسيرة عمله. وتتمثل إحدى نقاط الجدل الرئيسية في علاقته بالدكتاتور النيجيري السابق ساني أباتشا، الذي يُذكر أنه نهب أموالاً عامة خلال فترة حكمه بما قيمته 4 مليارات دولار.
وأقامت السلطة القضائية السويسرية دعوى قضائية ضد أسرة أباتشا وأقاربه وزملائه في أعقاب وفاة أباتشا عام 1998. وتم اتهامه بسرقة مليارات من الأموال العامة. وتورط شاجوري في القضية وتمت إدانته بتهمة غسل الأموال. وسدد غرامة قدرها مليون فرانك سويسري، بما يعادل 600 ألف دولار في ذلك الحين وأعاد 65 مليون دولار إلى حكومة نيجيريا، بحسب ما أوردته صحيفة لوس أنجلوس تايمز.
ولم تعد أنشطة شاجوري موضع جدل في مزيارة. فقد أصبح أكبر المستثمرين بالقرية وأصبحت سمعته رائعة للغاية. وتعبيراً عن امتنان القرية لمجهوداته، تمت تسمية الشارع الرئيسي مؤخراً اسم “طريق جلبرت شاجوري”.
وعلى غرار جميع مواطني مزيارة، يمتلك البطل المحلي منزلاً متوضعاً نسبياً يحمل اسم فيلا ألكسندرا. ويقيم به أحياناً مع زوجته وأسرته.
ووفقا لتقديرات البلدية، تم إنشاء أكثر من 300 منزل في مزيارة منذ عام 2008؛ ومع ذلك، يتراجع حجم المشروعات الجديدة مع تراجع أسعار النفط مؤخراً والأزمة الاقتصادية في نيجيريا.
ومع ذلك، يبدو أن مكانة شاجوري بوصفه أكبر محسن وفاعل خير بالقرية لا يمكن المساس بها.
وذكر نائب العمدة: “كان هناك في الأسبوع الماضي، لقد فاتك لقاؤه! إننا نعتبره أباً روحياً لنا. ويستطيع القيام بما يريده في البلدية”، وأضاف مبتسماً: “وليس هناك حاجة لانتخابه”