انتصار بطش السلطان على العدالة

انتصار بطش السلطان على العدالة
موسى العدوان

في كتابه ” الحريات الأسيرة ” أورد ألأستاذ الدكتور محمد الحمّوري القصة التالية وأقتبس :

” كان مايكل كولهاس المواطن الألماني، تاجرا للخيول الأصيلة، يعرف أنسابها، وتسلسل أصولها، فيبحث عن تلك التي تعجله ويشتريها صغيرة، ثم يقوم بتربيتها ورعايتها وتدريبها وتجهيزها للبيع. وامتلأت حظائره بالخيل المميزة، حتى أصبحت محط أنظار الباحثين عنها. وكان لكولهاس زوجة جميلة أحبها وأحبته، وشكلت له عونا كبيرا في تجارته.

وكان كولهاس قد اعتاد في رحلاته الكثيرة، على المرور من مقاطعة ( سكسوني ) العائدة إلى الأمير فون ترونكا، أحد النبلاء ذوي السلطان السماوي. لكن الأمير فون ترونكا اعتقله في المرة الأخيرة، بحجة عدم وجود إذن بالمرور. ولم يجد كولهاس أمام ذلك، سوى ترك اثنين من خيوله وأحد مساعديه، والذهاب إلى دريسدن عاصمة المقاطعة، للحصول على إذن المرور الذي طلبه الأمير. وهناك اكتشف بأن الإذن غير مطلوب، وأن حرية المرور مكفولة للجميع.

وعندما عاد كولهاس لأخذ خيوله، وجد أن الأمير قد استخدمها في فلاحة أرضه حتى أنهكها وشارفت على الموت، وأن مساعده عندما اعترض على ذلك، جلده الأمير على نحو غير آدمي. ولجأ كولهاس إلى القضاء ليحصل على حقوقه، لكن الأمير استخدم نفوذه للضغط على القضاة، واستصدر حكما يرفض دعوى كولهاس، لأنه ( مشاغب) ودعواه ضد الأمير كيديّة.

أمام ذلك قرر كولهاس أن يحقق العدالة بيديه، بعد أن أنكرها عليه القضاء، فباع أراضيه وماشيته، واستجمع أسرته وأقاربه وأصدقاءه، وقاموا بثورة على الأمير، وقال : ( إن المواشي وحدها هي التي تقبل بمصادرة حقوقها وحرياتها، وسوف أكون مثلها إن سكتُّ على ما حدث معي من هوان ).

وبدأ الصدام مع عسكر الأمير، وطعن أحد الجنود زوجة كولهاس فماتت، وأقسم كولهاس عند قبرها أن يواصل المشوار حتى يثأر لها في محاسبة الأمير أو يلحق بها. فلجأ إلى الدين ممثلا بالقس مارتن لوثر، زعيم المذهب اللوثري الإصلاحي ( البروتستانتي ) حديث النشأة، من أجل إنصافه من ظلم الأمير.

وكان مارتن لوثر قد حصل على شهادة العلوم من جامعة أيرفورت عام 1505، ودرس القانون حتى برع فيه. ولم يستطع كقانوني يؤمن بفكرة الحق والحرية، أن يقتنع بمنطق شراء الناس من القساوسة لصكّ الغفران، كوسيلة للخلاص من الإثم الدنيوي الذي علق بهم.

فدخل الكنيسة وأصبح قسيسا ومنها بدأ ثورته الدينية، غير مكترث بقرار الحرمان، الذي أصدره البابا بحقه، معلنا أن من حق الناس الالتجاء إلى الله وحده مباشرة، في طلب الغفران دون وسيط. وعندما أعلمه كولهاس بالأمر، تعاطف هذا الثائر الديني مارتن لوثر، مع الثائر الاجتماعي والسياسي مايكل كولهاس، لكن مساعي لوثر في إنصاف الرجل من الأمير باءت بالفشل. وعندها قال له كولهاس :

( أين عدالة الدين الذي تبشرنا به، وأين عدالة القانون الذي تتحدث لمواطنيك عنه، من حماية حقوق وحريات أبناء ألمانيا، بعد أن هجره القضاء الموكل بتطبيقه، وتم اغتيال العدالة على يد الدولة التي عليها حراسة القانون ؟ ).وهكذا انتصر بطش السلطان على العدالة “ . انتهى الاقتباس.

* * *
التعليق :

العدل هو أساس الحكم، فبه يعمُّ الأمن والاستقرار في المجتمعات، وبغيابه يسود الحقد وتنتشر الجريمة بين الأفراد، ويتقوض استقرار المجتمعات. وهذا ما أكّد عليه رب العزة بقوله تعالى في كتابه الكريم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8] صدق الله العظيم.

وبعد مجيء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، حاملا راية الإسلام، حرص على تعليم أصحابه قيمة العدل، مبينا لهم عظيم أجره يوم القيامة، فقال : ( إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة، بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا ). وقد تميز حكم الخلفاء الراشدين من بعده – رضوان الله عليهم – بالعدل وإحقاق الحق بين الناس. فجاءت ممارسة أبا بكر الصِّدِّيق لهذا المبدأ، خير شاهدٍ على ذلك إذ قال:

( لقد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت أعينوني، وإن أسأتُ قوِّموني، القويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحقَّ منه، والضعيفُ فيكم قويُّ عندي حتى آخذ له حقَّه ). وقال ابن تيميَّة في وقت لاحق : ( إنَّ الله ينصر الدَّولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدَّولة الظالمة ولو كانت مسلمةً . . بالعدل تُستصلح الرِّجال، وتُستغزر الأموال ).

ولكن مع الأسف الشديد . . أن كثيرا من حكام الدول العربية والإسلامية على مرّ العصور، قد ابتعدوا عن هذا النهج القويم. فأصبح الظلم والافتئات على الحق هو سبيلهم، حيث تجاوز بعضهم نصوص القوانين القائمة، لا بل سنّوا قوانين جديدة تكمم الأفواه، وتجرّم المتحدثين ولو بكلمة أو إشارة بسيطة، ثم جاء زجهم في غياهب السجون، منتهكين بذلك حرية الرأي وحقوق الإنسان اللتين يتغنون بهما صباح مساء.

إن إقامة العدل بين الناس أفرادا وجماعات، ليست من الأمور التطوعية التي تُترك لمزاج ورغبات السلطان أو الحاكم في الدين الإسلامي، بل إنها تُعتبر من أقدس وأهم الواجبات التي على الحاكم التقيد بها، وعلى المحكوم أن يجاهر بها، اقتداء بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ). فهل من متّعض من السلاطين والحكام العرب والمسلمين، في مختلف بلدانهم ومواقعهم ؟

التاريخ : 26 / 6 / 2020
٢

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى