
” كَرْم زَيتون في حيفا .. لَم يحتلوه بَعد ! ”
محمود الشيوخ
كان الأَمر بمَثابة حكايا خُرافيَّة من لفائف الجماهير التي تُحب الماورائيَّات ، و التحركات المُريبة ، و أحلام اليقظة ..
” عشرون دونماً في مُنتصف حيفا .. يبتلعنَ اليهود إذا دخلوا إليهن ”
هذه الجُملة كانَت تَتصدرُ الأَحاديث الخفيَّة التي تَتهامسُ النساءُ بها خلفَ الجُدران المُتهالكة ، و كانَ صداها يَرتفعُ إذا ما فتح أطفالُ فلسطين فُوهة الحَديث عن مُستقبلِهم المُقاوم ، و كانَت المَانشيت الذي يَتسيَّدُ كُل مَواقف اليأسَ الوَطني .
لم يكُن أَهالي المَدينة يَعلمون كيف تسرَّب خبر إختفاء أربعة مُجندين صَهاينة في ذلك الكَرم قبل تسعةٍ و ستينَ سَنة ، لم يَكُن يُهمهم إلا رواية الإختفاء ، لا الإسناد يَعنيهم ، ولا ضعفُ الرواة ؛ كانَ يَعنيهم بُشرى إختفاء الصَّهاينة الأربعة بعد إعلان الأمم المُتحدة قيام دولة إسرائيل بعدة ساعاتٍ فقط !
و لم يكن الأهالي يَعرفون أيضاً عن حقيقة القصة الأُخرى التي يتناقلونها عن هذا الكَرم ، قصةُ زارع شجرة الغَرقَد الذي تَسلل الى هذا الكَرم ليضعَ جُذور الشجرة المَلعونة بين أَشجارنا المُباركة ، و الذي ما إن تَسلل ليلاً حتى إلتف على عُنقه غُصن زيتونةٍ لم تتمالك نَفسها ، فشنقه .
ثُم وجدوه عند الصباح ملقياً خارج ( الشيك ) الذي يُسوِّر هذا الكَرم .
كذلك الأَمر ينطبق على قِصة الوَلد الذي لاحق الدورية الصهيونية التي أرسلها فضول قائد المنطقة العَسكرية ليتحرى هذه الشائعات التي كانت قد بدأت تُلاحقه كوابيسها الفَجرية .
ذلك الوَلد الذي كان بلا عينين ، و الذي كان ينفردُ بالجنود واحداً واحداً فيقطع أَجسادَهُم ، ثم يقذف بهم بعيداً عن الكَرم ، لتنهش جلودهم الكلاب الضالة التي تشبههم .
لم يكُن أهالي البلاد مُستعدين أن يقدِّموا مُحاكمةً عقليةً لتلك الأَساطير ، لم يتسائلوا فيما بينهم : إذا كان الجنود قد اختفوا ، فمن أين عرف أنهم قد إختفوا في هذه البُقعة تحديداً ؟
أو : من الذي رأى في عتمة ذلك الليل غُصن الزيتون الذي شنق زارع الغَرقد ؟ و لماذا لم يجن حينها ؟
أو : كيف علم الناس بقصة الطفل الذي يقطع أجساد الصهاينة في تلك المنطقة المُختفية ؟
كان المُهم في ذُهن الذاكرة الفلسطينية العربية شيئاً واحداً ، هو أن الصهاينة ليسوا قادرين على إحتلال حيفا بكاملها ، فكيف ببقية فلسطين الممتلئة بكُروم الزيتون المُشابهة .
أما أنا .. فقد علمتُ مُبكراً أن مُحترفي الأمل الذين صنعوا مثل هذه الحكايا كانوا قد عرفوا أن روح المُقاومة لا تنمو إلا على هذه الحكايا الغير واقعية ، و أن الأطفال لا بد أن يتربوا على هذه الموروث الذي لا يحق لأي أحدٍ أن يشكك في ثبوته القَطعي ، و أن القضية الفلسطينية لا يُمكن أَن تُخلد إلا إذا إرتبطت بشَجرة ؛ بزيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غَربية .. يكادُ زيتُها يُضيء !