
اليرموك بين إرثٍ ثقيلٍ وأملٍ مرتجى: هل يشرق فجر الإصلاح المنتظر؟
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
على طاولة رئيس #جامعة_اليرموك الأكرم، تتراكم الملفات الثقيلة التي بدأت تتكشف رويدًا رويدًا، لتكشف عن واقعٍ أكثر تعقيدًا مما كان يُتوقع. وربما ما ظهر حتى الآن ليس إلا جزءًا يسيرًا من قمة جبل الجليد. إنها تركة مثقلة بالتحديات الإدارية والمالية والأكاديمية، لا يمكن تجاوزها إلا بمصارحة حقيقية وشجاعة غير مسبوقة. فاليرموك، بما تمثله من رمز وطني وعلمي، لم تعد تحتمل المزيد من الغموض أو المجاملات أو إدارة الأزمات بالمسكنات.
لقد آن الأوان، بل تأخر الوقت، لأن تُعلن إدارة الجامعة الجديدة للرأي العام الأكاديمي والوطني الحقيقة الكاملة حول حجم المديونية المالية والأصولية للجامعة، بكل شفافية ووضوح. فاستمرار التشكيك والتلاعب بالأرقام، كما حدث في فترات سابقة، أساء إلى سمعة المؤسسة الأكاديمية التي يُفترض أن تكون عنوانًا للنزاهة والمعرفة. إن كشف الحقائق ليس تشهيرًا، بل إصلاحًا ومسؤولية وطنية. والمصارحة ليست خيارًا ثانويًا، بل شرطًا أساسًا لاستعادة الثقة داخل الجامعة وخارجها. الإصلاح يبدأ بالاعتراف، والمساءلة هي الطريق الوحيد لبناء مستقبلٍ نظيفٍ وواضح.
وفي هذا الإطار، ينتظر أعضاء هيئة التدريس من الإدارة الجديدة إعادة النظر في النظام المعدّل لأعضاء هيئة التدريس، ذلك النظام الذي شابته ثغرات خطيرة وتطبيقات مجحفة، خاصة فيما يتعلق بـحوافز الموازي التي تم استثناء البرامج العادية منها، وبنود التفرغ العلمي والإجازات التي تفتقر إلى العدالة والاتساق. لقد خلّفت تلك التعديلات شعورًا عامًا بالغبن داخل الأسرة الأكاديمية، ما يستدعي مراجعة جذرية تضع مصلحة الجامعة والعدالة المهنية فوق أي اعتبارات أخرى.
وإلى جانب ذلك، فإن السير في تنفيذ أحكام النظام المعدّل ووضع تعليمات واضحة وشفافة لتكريم الباحثين المتميزين بات ضرورة ملحّة. لا بد من وضع معايير محددة لتسمية الأستاذ المتميز وأستاذ الشرف، بما يضمن أن يكون التميز مبنيًا على الكفاءة والإنتاج العلمي لا على العلاقات الشخصية أو الولاءات. فتكريم العلماء ليس ترفًا إداريًا، بل رسالة قيمية تعكس مكانة الجامعة واحترامها لمن يصنعون مجدها الأكاديمي.
أما البنية التحتية للجامعة، التي كانت يومًا ما مفخرة وطنية، فقد تدهورت بشكل مؤلم نتيجة الإهمال وسوء التخطيط. القاعات المتهالكة والمختبرات القديمة والمرافق المتهالكة تحتاج إلى خطة صيانة شاملة تُعيد للجامعة صورتها المشرقة وهيبتها الأكاديمية. فالبيئة التعليمية المحفّزة هي أساس الإبداع، والجامعة التي تُهمل مرافقها تُهمل مستقبلها.
وفي السياق المالي، يُعدّ فتح ملف الاستثمار في الجامعة خطوة حاسمة في طريق الإصلاح الحقيقي. فلا بد من مراجعة دقيقة وشفافة لواقع صندوق الاستثمار، وشركة اليرموك للاستثمار، وجميع المراكز والظواهر الاستثمارية التابعة للجامعة. هذه الملفات التي ظلت بعيدة عن الضوء لسنوات تحتاج إلى تدقيق شامل في عقودها وإيراداتها ومصارفها. يجب أن يُعرف بوضوح إلى أين تذهب أموال الجامعة ومن المستفيد منها، لأن الاستثمار في اليرموك وُجد لخدمة الجامعة لا لخدمة الأفراد أو المصالح الضيقة. الإصلاح المالي لا يتحقق إلا بجرأة الكشف ومحاسبة من عبث بمال المؤسسة العامة.
ولا يمكن الحديث عن إصلاحٍ حقيقي دون تحقيق العدالة الانتقالية الأكاديمية، فالكثير من الزملاء تعرّضوا في السنوات الماضية لظلم إداري وإقصاءٍ ممنهج. إعادة الاعتبار لهؤلاء ليست منّة، بل واجب أخلاقي وقانوني. العدالة ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة يومية تترجمها القرارات العادلة والمنصفة.
ومن أبرز الملفات التي تحتاج إلى حسم، قضية وقف صرف مكافأة الموازي أثناء إجازة التفرغ العلمي، وهو إجراء لا يستند إلى أي أساس قانوني. إن إعادة المبالغ المقتطعة دون وجه حق تمثل التزامًا حتميًا بتطبيق قرار رئيس الوزراء الأخير، الذي نص بوضوح على أحقية أعضاء هيئة التدريس بتلك المكافآت. فالقانون لا يقبل التأويل، والحقوق لا تُسقط بالاجتهاد الإداري. إن تطبيق هذا القرار سيعيد الثقة ويُكرس مبدأ العدالة والإنصاف.
وفي موازاة ذلك، يتطلع أعضاء هيئة التدريس إلى إعادة الاعتبار للبحث العلمي، وتعزيز الدعم لمراكز الأبحاث وتشجيع النشر العلمي الرصين، وتطوير برامج الدراسات العليا التي أصابها الجمود بسبب البيروقراطية والعقليات التقليدية. كما يتطلعون إلى إقرار التعديلات المقترحة على تعليمات البحث العلمي والدراسات العليا، ومنح المجالس الأكاديمية صلاحياتها الكاملة لتحديث السياسات والمناهج، بما يواكب التحديات العالمية ويعيد للجامعة مكانتها في التصنيفات الأكاديمية الدولية.
إنّ ما يأمله العاملون في جامعة اليرموك من إدارتكم الجديدة هو ترسيخ قيم الشفافية، والمساءلة، وتكافؤ الفرص، والعدالة في التعيينات والقيادات. فالإصلاح لا يُقاس بالشعارات، بل بالقرارات الجريئة التي تُعيد الثقة وتُرسخ مبدأ الكفاءة لا الولاء، والحق لا المجاملة.
اليوم، تقف جامعة اليرموك على مفترق طرق: إما أن تختار طريق المكاشفة والمحاسبة والإصلاح، أو تبقى أسيرة دوامة التردد والإنكار التي أوصلتها إلى هذا الواقع.
الأمل كبير بكم، والعين عليكم، والتاريخ لا يرحم من يتردد في لحظة تحتاج إلى القرار.
لقد آن لليرموك أن تستعيد مجدها وتنهض من جديد، فالمكان الذي أطلق العلم والفكر لا يجوز أن يتحول إلى إدارةٍ تكتفي بإطفاء الحرائق أو تدوير الأزمات.
اليرموك تنتظر فجرها الجديد… فهل تشرق شمسه على أيديكم؟




