“الوصايا العشر قبل دخول الشهر”

#الوصايا_العشر قبل دخول الشهر” – ماجد دودين

قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥]، أمر الله سبحانه أن من شهد فليعمل، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: “لا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، لا تجعلهما سواء”، لا بد من التغيير.

إنه بمجرد ظهور هلال #رمضان في السماء تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين …

سبحان الله!، تغيّر جذري عجيب في الكون كله، يجب أن يستشعره المؤمن صاحب العقل اليقظ والقلب الحي، ويحصل منه استقبال لهذا الشهر، استقبالًا حقيقيًّا، فيظهر أثر ذلك الاستقبال في تغيير نمط الحياة؛ لأنه يتعامل مع الكون، فإذا تغير الكون يجب أن يتغير هو أيضًا؛ لذلك أول ما نستقبل به الشهر: فُكَّ الشدَّ العصبي في العِراك مع الحياة لتحصل المصالحة.. لا بد من عقد هدنة بين جميع الأطراف خلال هذ الشهر لنصل إلى الهدف المنشود بسلام: والهدف الأسمى هو “العتق من النار”، فإليك هذه الوصايا العشر، اعمل بها يرحمك الله.

مقالات ذات صلة

[الوصية الأولى: هدنة مع المناقشات والجدال]

في المنزل مع الزوجة والأولاد، وتهيئة بيئة رمضانية إيمانية، قال سبحانه: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: ٨٠]، ويكون ذلك بما يلي:

· محاولة فض جميع المشاكل والمنازعات قبل دخول الشهر، حتى لا تعكر عليك جوك الإيماني، وحتى لا تعرقل طاعاتك التي تريد القيام بها، لا بد أن تتخلص من هذه المشكلات وأن تضع لها حلولًا جذرية حتى لا تؤثر على عبادتك.

· توقيع اتفاقيات سلام ومصالحة بين أفراد الأسرة جميعًا، فتنقي البيئة من حولك من شائبة الاختلافات والخصومات، واعمل على أن تُوجِد جوًّا من المحبة والتواد والتقارب بين أفراد الأسرة؛ فإن ذلك مما ييسر السبيل أن يطيعوا ربهم سبحانه وتعالى، ثم يطيعوك …قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: ٥٣].

· عقد اجتماع طارئ وعاجل مع جميع أفراد الأسرة للاتفاق على المبادئ والأصول التي سيتم السير في ظلالها خلال شهر رمضان، ومن هذه المبادئ:

o التخلي عن التلفاز ومشاهدته، وإقناعهم أنهم لن يخسروا شيئًا إذا فعلوا، وتعالوا نجرب أن نستبدل ذلك بأعمال إيمانية وقربات نافعة.

o إيقاف سيول الأغاني الجارفة التي تقتل الإيمان.

o ضبط اللسان والحذر من انحرافه إلى ما يغضب الله.

o إلغاء السهرات والدعوات أو التقليل منها، قدر الإمكان.

· اتخاذ السبل الجادة لإنقاذ جميع أفراد الأسرة من النار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: ٦]، قال ابن عباس – رضي الله عنه -: أي علِّموهم الخير وأدبوهم.

[الوصية الثانية: إقامة هدنة في العمل مع الزملاء والمسؤولين]

وذلك يكون بالتجاوز عن الخصومات ومصالحة الجميع ونسيان الخلافات، والبدء بصفحة نقية بيضاء، لا نريد زوبعة المشاكل في العمل، ولا نريد الانشغال بقيل وقال، لا نريد ضياع الأوقات في فضول الكلام، ولا بد من الإصلاح بين المتخاصمين والوصول إلى حل وسط لإرضاء جميع الأطراف في غير معصية الله، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: ١].

نريد أن يكون تعاملك مع زملائك في العمل مبنيًّا على حصول المكاسب لك في الدين، وإن خسرت الدنيا، ولا بد كذلك من إتقان العمل وإحسانه لا سيما وأنت صائم تراقب الملك سبحانه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”

[الوصية الثالثة: إقامة هدنة مع نفسك للتخلص من سموم القلب]

وسموم القلب خمسة: فضول الطعام، وفضول الكلام، وفضول النوم، وفضول الاختلاط، وفضول النظر.

· هدنة مع الأكل، إنه شهر صيام وتقلل لا شهر أكل ونهم وتوسع: الطعام وقود الشهوات، وامتلاء المعدة بالطعام سبب لكسل البدن عن العبادة، وإذا أكل المرء كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا وخسر كثيرًا، وتأمل كيف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر الشاب العَزَب بالصيام؛ وعلل ذلك بأن الصيام “وِجاء” أي قاطع للشهوة، يقضي عليها ويهذبها، وقد علمنا النبي – صلى الله عليه وسلم – فِقْهَ الطعام فقال: “ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلًا، فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنَفَسِه” ، نريد هدنة مع الأكل، قال سبحانه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١)} [طه: ٨١]، اكتف بلقيمات كما أمرت.

· هدنة مع الكلام: رجاء.. احبس لسانك في رمضان: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت”، كل كلمة تخرج من فمك فهي إما ثواب وإما عقاب، قال الله جل جلاله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: ١٨]، وكثرة الكلام مَدعاة للخطأ. وفي الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من صمتَ نجا”، وقد جعل الله لك لسانًا واحدًا وأذنين ليكون ما تسمع أكثر مما تتكلم، والبلاء موكلٌ بالنطق، فاحذر فضول الكلام، واحذر الاسترسال في الحديث عن الدنيا فإن ذلك يقسي القلب، وإن استطعت ألا ترد على الهاتف إلا لأمر ضروري فافعل، وأن تأمر زوجتك بالتوقف عن المكالمات التي تمتد لساعات بلا فائدة، والتي تضيع الوقت، وعادة ما تؤدي إما إلى الحديث في أمور الدنيا، وإما في الغيبة والنميمة فهكذا أحاديث النساء دائمًا إلا من رحم الله. فلا تستخدم الهاتف إلا لطاعة الله كأن تبر والديك أو تصل رحمك أو تنهي أعمالا مهمة أو تدل على خير، وألجم لسانك عن قول ما لا يرضي الله عز وجل، وقد سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: “الفم والفرج”. وهما أيضًا سبب لدخول الجنة، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة”، وهذا يدلك على خطر اللسان وخطر كل ما يخرج منه. لا بد أن تتخلص من فضول الكلام؛ فإنه من سموم القلب، واستقبل رمضان بالصوم أيضًا عن الكلام.

· هدنة مع السرير.. دعه يستريح منك شهرًا:

النوم نعمة من الله على عباده، ولكن لا إفراط ولا تفريط، يكفيك في رمضان أن تنام خمس ساعات في اليوم؛ لأنك تطلب شيئًا عظيمًا، بل تطلب أعظم شيء وهو جنة الله، اللَّهم إنا نسألك الجنة، فلا بد أن تقلل من ساعات نومك؛ لأنك في حالة طوارئ، تتعب في تحصيل غاية كبيرة، بل هي أكبر غاية، فاحذر كثرة النوم حتى لا يضيع عمرك ويضيع دينك وقلبك.

كلما حدثتك نفسك بالنوم والتكاسل عن العبادة، أغمض عينيك وتخيل الجنة، وقل لنفسك: أترضين أن نخسر الجنة؟، أتنامين وهناك من يسبقنا الآن إليها، أما علمت أن فلانًا يتلو القرآن الآن، وفلانًا يصلي من الليل الآن، فماذا سيفيدك النوم إذا سبقك هؤلاء إلى الجنة بدرجات!!

لذلك أنصحك أن تجعل لك صديقًا مخلصًا ذا همة عالية تتنافس معه في العبادات، تتنافسان من يختم القرآن أولًا وكم مرة، تتنافسان على قيام الليل، وعلى ذكر الله، ويوقظ كل منكما الآخر فإن ذلك يجلب لك همة ونشاطًا، قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦].

· هدنة مع الناس.

أنفاس الناس دخان القلوب ومخالطة الناس بلاء، قال بعض الحكماء: هذا أوان السكوت ولزوم البيوت.

إن الناس يثبطونك ويخذِّلونك عن الطاعة، وقلما تجد منهم ناصحًا أمينًا، فاحذر مخالطة أهل الدنيا، فإن خلائقَ السفهاء تُعدي، وكما يقول علماء التربية: “الطِّباعُ سَرَّاقة”؛ و”الإنسان ابن بيئته”، فإن كان لا بد من مخالطة فلتكن يسيرة، ولتكن بالصالحين، وعليك بذوي الهمم العالية منهم، من إذا دللته على خير سبقك إليه لا يثبطك عنه. ابحث عمن تعلم أن همته في الثريا وليست في الثرى.

وقد أُمِر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن يصبر نفسه مع المؤمنين المجدين في السير إلى الله؛ فقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ} [الكهف: ٢٨]، ثم أمره تعالى بأن يجتنب مخالطة الغافلين وطاعتهم فقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨]، وقد حذرنا ربنا عَزَّ وَجَلَّ كذلك من الركون إلى الظلمة ومخالطتهم، وهذا يشمل العصاة المجاهرين بالعصيان كذلك، فرؤيتهم تقسي القلوب، كما أن رؤية الصالحين تذكر بالله، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: ١١٣].

· هدنة مع العينين.. أغمض عينيك.. أرح بصرك:

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: ٣٠]، وفي الآية التي تليها مباشرة: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: ٣١]، والنظر إلى المتبرجات يفتت عزم القلب.. يشتت القلب ويهلكه لأنه سم، وإطلاق البصر سبيل لحصول الظلمة في القلب، كما أن غض البصر سبيل لحصول النور والبصيرة في القلب، ولذا جاءت آيات النور بعد آيات الأمر بغض البصر، وليس غض البصر عن النساء فقط، وإنما كذلك غضه عن النظر إلى متاع الدنيا الذي يُنسي ويُلهي، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: ١٣١].

لا بد من راحة للبصر لكي تنطلق البصيرة، وسبيل ذلك أن يسعك بيتك ولا تنطلق في الشوارع، اشغل نفسك ببعض الطاعات: لا تجد وقتًا للخروج، واشغل بصرك بالنظر في المصحف.

الوصية الرابعة: عمل هدنة مع الأرحام والوالدين:

إن شعورك -مجرد شعورك- أن كل الناس يحبونك ويعجبون بك. مجرد شعور أنك ليس لك أعداء ولا أحد يحقد عليك. هذا الشعور يجلب راحة نفسية وهدوءا قلبيًّا وراحة ضمير، وراحة بال مطلوبة يحتاج الإنسان إليها.

وأنت أحوج لأن تستشعر هذا الأمر من المحيطين بك، وأقرب الناس إليك، أن ترى رضاهم عنك وسرورهم بك وحبهم لك، إننا نطلب هذا لا لنعجب بأنفسنا ولا طلبًا لراحة قلوبنا فقط وهدوئنا النفسي فحسب ولكن لنستطيع أن نتخلص من الهم ويسكن روع القلب، كي نعبد الله كما ينبغي.. إن الأجواء الإيمانية تتسم بالهدوء والسكينة واللطف.. ولاستقبال رمضان كما ينبغي لا بد من تهيئة هذه الأجواء، ولكن كيف؟!!

بالإحسان إلى الجميع.. إراحة الجميع.. ولو على حساب نفسك.. مسامحة الكل والتنازل عن الحقوق، وأداء جميع الواجبات تجاه الجميع، ابذل كل ما تستطيع لعقد هدنة مع كل من حولك من الأقارب.

طاعة الوالدين فرض واجب ما لم يأمرا بمعصية الله، فيجب عليك طاعتهما والإحسان إليهما والبر بهما ، ولا بد أن تصل رحمك وأن تحذر من قطع الأرحام، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}النساء:1، يعني واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك” ، ومن وصل رحمه وصله الله ومن قطعها قطعه الله؛ لذلك لا بد من زيارة الأرحام والسؤال عنهم ومساعدتهم إذا استدعى الأمر، كي يصلك الله برحمته في هذا الشهر الكريم، فابدأ شهرك بصلة رحمك. قال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: ٢٦] فلهؤلاء حق وليس تفضلًا منا عليهم.

وإذا كان حق المسلم على المسلم ست؛ فإن ذا الرحم يزداد حقه على ذلك بصفة الرحم، والوالدان حقهما أعظم، ولا بأس من حمل شيء من الهدايا حسب الاستطاعة، والهدية تذهب وَحْرَ الصدر، الهدية تكون سببًا في المودة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “تهادوا تحابوا”.

[الوصية الخامسة: عمل هدنة مع النفس لترك الذنوب والمعاصي والسيئات]

· هدنة في الحرب مع الله: قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)} [البقرة: ٢٢٩]، حاول أن تعقد اتفاقًا مع نفسك لكي تكف عن الحرب بترك الذنوب والمعاصي تمامًا.. ابدأ فورًا بإقامة العهد مع النفس بالإقلاع عن الذنوب، والتوبة إلى الله جل جلاله. ولا بد أن تكون هذه التوبة نصوحًا، بأن تكون شاملة لكل الذنوب، وأن تندم على كل ما عملت، وأن تعزم وتنوي ألا ترجع إلى الذنوب والمعاصي مرة أخرى. والتوبة واجبة من كل ذنب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: ٨]، وتأمل كيف أمر الله المؤمنين جميعًا بالتوبة وعلق عليها فلاحهم فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: ٣١].

لا بد أن تعاهد نفسك على ترك المعاصي والسيئات، لا بد أن تتوب، وإن لم تتب فأنت ظالم بنص كلام الله جل جلاله، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: ١١]، ولابد أن تتخلص من إصرار النفس على الذنوب؛ فإن الإصرار على الذنب ذنب آخر.

· البعد عن أسباب المعاصي، فلا بد أن تغلق باب المعصية عن نفسك، ابتعد عن أماكن الاختلاط، ابتعد عن التلفاز، ابتعد عن قراءة المجلات والجرائد التي تدعو إلى الفتن، ابتعد عن كل سبب من أسباب المعاصي، حتى تحافظ على إيمانك، فإن للمعصية ظلمة في القلب وسوادًا في الوجه وبُغضًا في قلوب الخلق. لماذا تضع نفسك بين الفتن ثم تحارب لتنجو منها؟ ولماذا تقترب من أسباب المعصية مع علمك بأن أسلم طريقة للنجاة من الفتن البعد عنها؟، وأنت تعرف حديث قاتل المئة كيف أمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بترك أرضه التي كان يعيش فيها؛ لأنها أرض سوء.. أسباب المعصية فيها متوفرة، وأمره أن يذهب إلى أرض كذا وكذا؛ لأن فيها قومًا صالحين ليعبد الله معهم، فأمره بالبعد عن سبب المعصية، والاقتراب من سبب الطاعة.

· العزم على عدم العودة؛ أن تنوي نية حقيقية صادقة ألا تعود إلى الذنب؛ لأن في الرجوع إلى الذنب هلاكك؛ لأنه قد يكون في رجوعك إليه سقوطك من عين الله.. إنك إذا رجعت إلى الذنب قد تموت عليه فتلقى الله عاصيًا، فانهض إلى طاعة ربك وأتبع السيئات الحسنات، ولا تلتفت بقلبك إلى الذنب، واحذر أن تقع فيه؛ بل اعزم على عدم العودة إليه أبدًا.

[الوصية السادسة: هدنة مع طول الغياب خارج المنزل وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات]

ابدأ في التقليل من الخروج وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات.. تفرّغ في رمضان لعبادة ربك، لمعالجة نفسك والعمل على تهذيبها، أنت في فترة عناية مركزة للقلب، لماذا تكثر الخروج من البيت دون ضرورة؟ يمكنك أن تشتري حاجيات رمضان قبل دخوله حتى لا تنشغل بغير العبادة، يمكنك أن تشتري ملابس العيد قبل دخول رمضان وتتركها حتى العيد، الأشياء الأخرى التي تريدها في العيد اشتريها من الآن.

سأل عقبة بن عامر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن النجاة فقال: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك”

[الوصية السابعة: هدنة مع كثرة النفقات والتبذير]

شُرع الصيام للتقليل من الطعام والشراب؛ ولكن للأسف الشديد! تجد الناس ينفقون في الطعام والشراب في رمضان ما لا ينفقون في غيره!! والتبذير ليس من أخلاق المؤمنين، بل هو من صفات الشياطين، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: ٢٦ – ٢٧]، وقد أمرنا ربنا بالاعتدال في الإنفاق وحرم التبذير فقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: ٢٩]، ويمكن أن تتفق مع الأسرة على أمور:

· الاتفاق على صدقة: الصدقة برهان على صدق المرء في إيمانه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”، فاتفق على أن تتصدق كل يوم ولو بشيء قليل؛ فإن الله يضاعفه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله يقبل الصدقة من أحدكم فيربيها له كما يربي أحدكم مهره حتى تكون اللقمة مثل الجبل”، قالت السيدة عائشة – رضي الله عنها – لما سألها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما بقي من الشاة؟ “، قالت: كتفها، قال – صلى الله عليه وسلم -: “بقيت كلها إلا كتفها”، تصدق أنت مرة، وأعط زوجتك هي الأخرى، وأعط ولدك يتصدق؛ لكي يتعود على العطاء والبذل، والله يضاعف لمن يشاء.

· إفطار الصائمين: اجتهد أن تُفَطِّر صائمًا أو صائمين أو ثلاثة أو عشرة كل يوم قدر استطاعتك؛ فإن لك مثل أجره كل يوم، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من فطَّر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء”، أبرم مع الله عقد تأمين على الصيام، هل تريد أن يكتب لك رمضان مضاعفا؟ الأمر يسير جدًّا، ما عليك إلا أن تفطر كل يوم صائمًا فتكون في خلال ثلاثين يومًا قد فطرت ثلاثين صائما؛ فيكتب لك رمضان مضاعفا ومن لديه القدرة أن يفطّر عشرين صائما كل يوم … يكتب له رمضان كأنه صام 600 يوم.

· إطعام المساكين: قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: ٨]، وإطعام الطعام قربة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”، وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يفطر كل يوم مع المساكين.

· مساعدة المحتاجين: تُرشِدُ ضالًّا، تعين ضعيفًا في طلب حقه، تؤازر مسكينًا، تنصر مظلومًا، من احتاج شيئًا تثبته له. ذهب جماعة إلى الحسن البصري في حاجة فقال: مروا على فلان في المسجد وخذوه معكم، فذهبوا إليه فقال: إني معتكف، فقال: ارجعوا وقولوا له: يا أعمش، أما علمت أن مشيك في حاجة أخيك حتى تثبتها له خير من اعتكافك، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “واللهُ في عونِ العبدِ، ما كان العبد في عونِ أخيه”.

[الوصية الثامنة: هدنة مع العقول والقلوب من التفكير والتدبير للدنيا]

الدنيا لا تستحق أن تفكر فيها، الدنيا أهون من ذلك، وأقلّ من أن تنشغل بها وتدبّر لها؛ لذلك اجعل تفكيرك كله في الآخرة:

(١) فكر في حسنة جديدة تعملها، ابحث عن عبادة مهجورة لتقوم بها، ابحث عن ذكر مهجور لا يقوله كثيرٌ من الناس أو لم تقله أبدًا واذكر الله به، فكِّر كيف تجمع الحسنات وتدَّخِر الأجر عند الله جل جلاله.

(٢) فكر في خدمة المسلمين كيف تخدمهم، كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين يحلب للحي شياههم، وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يذهب إلى عجوز مُقعَدَة ضعيفة ليخدمها، فوجد أن رجلًا سبقه إليها قد نظف بيتها وملأ لها آنيتها؛ فتعجب من هذا الذي سبقه إليها وقام بهذا فوجد أنه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -!! كانوا يتسابقون في خدمة المسلمين وبذل الخير لهم.

(٣) التفكير في خدمة الدين: تفكر كيف تخدم دينك، وكيف تبذل في سبيله، تعطي شريطًا هدية، تقوم بإلقاء موعظة، تهدي كتيّبًا، تدعو رجلًا لترك التدخين، وتدعو آخر للمحافظة على الصلوات، تقوم بعمل مجلة مفيدة، تقوم على حلقة لتحفيظ القرآن وتجويده.. وتفكر في خدمة دينك، وديننا يحاج إلى كل يد تكتب عنه وتدافع عنه، وإلى كل لسان يبيِّن عظمته وحقيقته للناس، وإلى كل قلب ينبض بحبه.

(٤) التفكير في لذة أخروية: تفكر كيف تفوز غدًا بالجنة، كيف تستشعر قرب الله إذا ذكرته، كيف تحقق الخشوع في الصلاة، كيف تخلو بربك في ساعة النزول الإلهي الذي يليق بجلاله وكماله، تبكي بين يديه وتتضرع إليه، فتشعر بقربه منك وقربك منه وحبه لك، قيل للحسن: مالنا نرى أهل الليل أحسن الناس وجوهًا؟، قال: خَلَوْا بالرحمن فألبسهم من نوره.

[الوصية التاسعة. هدنة مع استهلاك الأعضاء]

في رمضان أرح عينيك بعدم التطلع إلى الدنيا، بعدم النظر إلى ما يغضب الله، تريحهما بالنظر إلى كلام الملك جل جلاله، تريح عينك من عناء الذنوب، وتريح أذنك من ضجيج الكلام وصخب الهموم والغموم.. تريح أذنك من سماع الغيبة والنميمة والكذب، تريح أذنك من سماع الأغاني، وتريح رجليك من كثرة الانتقال هنا وهناك بغير فائدة، تريح رجلك بالاستقرار في بيتك أو مسجدك، تريح رجليك من كثرة السعي لتحصيل ما لا فائدة من ورائه. وتريح عقلك من هموم الدنيا ونكدها.. تنشغل بالطاعات والأذكار والاستغفار فلا يبقى عندك مكان لهذه الهموم التي تنخر في جسمك وتؤذيك، وتريح معدتك بعدم دس الطعام فيها على الدوام، بل تبقى في نهار رمضان خالية مستريحة، تريحها من ثقل الطعام، وتريح أمعاءك كذلك، تريح قلبك من التعلق بالبشر والتعلق بالأسباب والانشغال بغير الله، اجمع همك وأرح جوارحك تستمتع بحب الله.

[الوصية العاشرة: هدنة مع الهموم]

أريدك أن تطرح الهموم عن صدرك.. لا تشغل ذهنك بها، واللهِ.. إن هذه الدنيا لا تستحق أن تقتل نفسك من أجلها. لذلك: اجعل الهم همًّا واحدًا، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، اجعل هذا همك: أن ترضي الله وحده، فلو رضي عنك لنالك كُلُّ خيرِ وبِرٍّ وبركةٍ وفضل، هذا الهم لا يؤجل وجميع الهموم تؤجل، فليكن همُّكَ في رمضان هو عتق رقبتك من النار، والفوز برضوان الله عَزَّ وَجَلَّ. إذا كانت هذه الهدنة التامة.. كانت الراحة التامة.. فكان الاستقبال لرمضان بحفاوة بالغة.. وبداية موفقة.. وعناية مركزة.. فنعيش رمضان كما ينبغي.

· بتصرّف واختصار يسير من كتاب أسرار المحبين في رمضان للشيخ [محمد يعقوب]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى