النووي ..بين الروس وتجربة البلغار
يمكن اعتبار بلغاريا من أكثر الدول الشبيهة بالأردن من حيث تقارب عدد السكان والمساحة وقدرة التيار الكهربائي وما إلى ذلك، وهي تجربة ضرورية لفهم صعوبة التعامل مع المشاريع النووية حتى لدولة أوروبية تابعة للاتحاد الأوروبي الآن وتمتلك قدرات كبيرة من المعرفة والتقانة، وخصوصاَ لأنها بدأت مشروعها النووي في مطلع السبعينيات في منطقة كوزلودوي الواقعة على نهر الدانوب.
تتألف المحطة النووية في كوزلودوي من ستة مفاعلات تم شطب أربعة مفاعلات منها ويبقى الآن مفاعلان فقط قيد العمل بقدرة أقل من 2000 ميجاواط تقريباً. وتزود المحطة النووية الشبكة الكهربائية البلغارية بنحو ثلث استهلاكها من الكهرباء وهي من اعلى النسب في اوروبا بعد فرنسا.
بدأت بلغاريا مشروعها الجديد في منطقة بيلين Belene، الواقعة على نهر الدانوب أيضاً وعلى الحدود مع رومانيا تماما، وذلك منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي في عهد الحكم الاشتراكي الأسبق. وما أن تركت أوروبا الشرقية الأنظمة الشيوعية الاستبدادية حتى طالب الشعب، والنشطاء البيئيين منهم تحديداً، بالتخلي عن هذا المشروع. وكما هو متوقع، لم تتوافر القدرات المالية، وبخاصة فيما بعد عندما انضمت بلغاريا إلى الاتحاد الأوروبي ورفض الاتحاد الأوروبي تمويل أي مشاريع نووية قد تسبب كارثة في أوروبا. ولكن المشروع عاد وانطلق مرة أخرى بالتعاون مع شركة روس اتوم الروسية وتم التوقيع على الاتفاقية في عام 2008، علماً بأن الأعمال التحضيرية كانت قد بدأت في المشروع منذ عام 2005.
وما أن انقضت أربع سنوات حتى اتضح أن الحكومة قد أنفقت أكثر من ملياري دولار على المشروع ولم تنجز شيئاً حقيقاً على أرض الواقع، الأمر الذي جعل البرلمان البلغاري يصوت على وقف هذا المشروع فوراً. وفي عام 2013 وبعد قرار مجلس النواب البلغاري قامت الشركة الروسية برفع دعوى على الحكومة البلغارية ومطالبتها بتعويضات، الأمر الذي انتهى إلى قرار من محكمة جنيف في 16/6/2016 بالحكم لصالح شركة روس اتوم بمبلغ 550 مليون يورو كتعويضات وبخاصة لأن المفاعلين قد تم تصنيعهما في روسيا. كما فرضت المحكمة غرامات على بلغاريا مقدارها 168 ألف يورو يومياً في حال تأخير تسديد الاستحقاقات.
وهكذا وقعت بلغاريا بين “حيص بيص”، فقد التزمت بدفع هذه التعويضات وبدأت بذلك فعلا تخوفا من الغرامات وفي الوقت نفسه بدأت تسعى لأن تبيع هذين المفاعلين لدول مثل الهند وإيران لأنها على وشك تنفيذ مشروعات مشابهة، وكذلك طرحت فكرة أن يتم استقطاب مستثمرين لمحاولة إعادة إكمال هذا المشروع؛ وقد تقدمت لذلك شركات صينية مثل البنك التجاري الصيني IBCB، ولكنه يبدو أن رئيس الوزراء البلغاري Borissov قد صرح في 20/6/2016 أن استكمال هذا المشروع مسألة انتحار ذاتي في ضوء تعرض روسيا لمقاطعة أوروبية أمريكية.
لذلك، يغلب الظن هذا المشروع النووي البلغاري سوف يعمد الى بيع قطع المشروع إلى دول أخرى، وربما يكون قد اتضح البديل لبلغاريا بعقد اتفاقية مع روسيا لجعل منطقة فارنا السياحية الواقعة على البحر الأسود مركزا لتجميع وتخزين الغاز الروسي لغرض بيعه في أسواق أوروبية، وبخاصة بعد توقف مشروع أنبوب الغاز الروسي العملاق لشركة Gazprom الملقب بالخط الجنوبي South Stream الذي كان من المزمع بنائه تحت مياه البحر الأسود عبر بلغاريا وصولاً إلى وسط أوروبا، وذلك بتأثير من المقاطعة العالمية لروسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم والحرب الدائرة في دنيتسك بأوكرانيا التي يبدو أنها باتت تتسع بتوجهات الرئيس الأمريكي الجديد إلى التوقيع على عقوبات اقتصادية جديدة وقاسية بشأن روسيا، الأمر الذي سوف يحد من نشاطاتها حول العالم.
فهل انسحاب الروس من المشروع النووي الأردني مرتبط بالسياسة أم بالاقتصاد؟ ربما الاثنان معا، ولكن لنأمل ألا يتم دفع تعويضات للروس كما حدث في بلغاريا ونأمل أيضا ألا يتم التوجه الى الصين لأنهم الأسوأ في أمان الصناعة النووية!