النهضة الحميرية / شبلي العجارمة

﴿ النهضة الحميرية ﴾

ذات حقبة من الزمن ليست ببعيد، کان الحمار يحمل علی عاتقه مهام جسام ومسٶوليات ضخام، وکان الشعب والوطن بشقيه البدوي والفلاحي يعتبرون الحمار قاسم مشترك أکبر بينهما، ففي نفس الوقت الذي کان الحمار يقود القطيع وفي رقبته القرقاع الطبال وخلفه مرياع القطيع الکبش الضخم الملون کان متاع الرعاة أيضاً علی ظهره وفي مصراعي الخرج السکر والخبز والملح وکروز الکبريت أبو الثلاث نجمات کانت أيضاً مرکابة النار الحديدية وإبريق الشاي ومطرة ماء مغطاة بالخيش تتدلی من ظهرت الحمار، وکان ظهره مجهزاً بالحلس المحشو من القش والمنجد بالحنتور الأسود ، أيضاً کان الخبز الناشف المکسر في کيس خاص يرشه الراعي للمرياع وبعض نعاج القطيع لتتبع الحمار الذي يقل الراعي ومتاعه، وقد کان ظل الحمار أيضاً مرتعاً لکلاب القطيع التي لا تجد کسر الخبز الزاٸدة عن حاجة الراعي إلا في ظل حمار القطيع العتي.
کما کان للحمار حضوراً في حياة البدوي وأهمية ذات شعبية عارمة بين الرعاة فقد کان أيضاً شخصيةً طاغية في تفاصيل حياة الفلاح، فالحمار يحمل أکياس البذار والسماد العضوي وتقع علی کاهله حراثة الأرض وتجهيز الحقل ، وکان يحمل علی ظهره أکياس الحشيش من الأعشاب الضارة لماشية البيت التي تشکل المونة الحيوانية لأهل البيت ، فقدت کانت البقرة البلدية وخم الأرانب والعنزات والدجاج تحظی کل منها بعبطة حشيش إلا الحمار المسکين فقط کانوا يکتفون بربطه أمام البيت علی کومة قش ناشفة من العام الماضي وبعض من حفنات العقدة بواقي البيدر والنخب الأخير للفلاح وسطل من الماء أکل الصدأ کل حوافه وجوانبه.
في کل هذه الوظاٸف والواجبات لم يکن للحمار مستشارين ولا مساعدين ولا مدراء أعمال أو سکرتاريا ولا من ينوب عنه إذا غاب لدرجة أنّ غيابه کان يشکل فراغاً في البيت لدرجة أنّ موت صاحبه هو أقل مصيبة من موته في بعض الأحيان.
الحمار کان الفاٸز بالتزکية في منصبه النهضوي الذي لا يجروء حتی صاحبه أنّ ينافسه عليه ،فقد کان الحمار يحظی بشعبية لا مثيل لها بين المجتمعات التي تعول علی وجوده کثيراً ولا تکاد تستغني عن نهيقه ومنظره أمام عتبات البيت.
حتی القمح يتم نقله علی ظهره من غرفة المونة إلی بابور الطحين ومن ثم يعيده طحيناً لغرفة المونة مرةً أخری دون أنّ ينقص منه عرام أو حفنه واحدة ليصبح بعد ذلك خبزاً وحنطة.
عرف الحمار کل واجباته وحفظها في کل مجالاتّ اختصاصه سواء کان حمار تخصصه الرعي أو تخصصه فلاحي ولم يکن يزاحم البقرة علی الحليب ولا الحصان في ميادين الغزو ولا الکلاب في النبح والحراسة ولا حتی تعلم معاعاة الديوك أو مقاقاة الدجاج والبيض.
لحقبه من الزمن کانت المجتمعات تبني نهضاتها علی مناکب أجيال وسلالات من الحمير ، وقد کانت نتاٸج النهضة الحميرية هي الاکتفاء الذاتي سواء من المرعی أو في الحقل دون أنّ ترتفع تکاليف الإنتاج ودون انخفاض في مواسم الإنتاج ، وکان الفلاح والبدوي يحتاط علی جيل من الجحوش الشابة لتکون تحت الطلب في حين أصاب الحمار عجزاً أو عارضاً صحياًً وغالباً ما کان الموت هو الراحة الأبدية للحمار النهضوي.
شکلت الحمير نهضةً في زمن لا يجروء أحد علی إنکارها أو التقليل من شأنها، ولم ترتبط تلك النهضة بأي تطورات عالمية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، بل کانت تأخذ جانباً من أحاديث السمر في الليل حين يتجاذب الفلاحون أطراف الکلام فيقول”اليوم جبت صليبي ما مرّ بالتاريخ من عرض ظهره تربع علی ظهره تربع“، وکانت نهضة مبنية علی مسالمة الحمير ورعاتها والمجتمع دون أي خلاف عام أو خاص أو مشترك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى