المنطويات الفكرية لخارطة تونس الجينية
كان يظن فيما مضى أن الشعب التونسي في أغلبه خليط من العرب والبربر، فضلاً عن بقايا أهل الأندلس. ولكن الخارطة الجينية المعاصرة كشفت تنوعاً هائلاً في أصول التوانسة يعود في أغلبه إلى البربر في المغرب وليس في الجزائر كما كان يظن وبنسبة تصل الى نحو نصف عدد السكان.
وقد جاء في المرتبة الثانية الأثر الأوروبي بنسبة نحو 37% من مناطق متنوعة من أوروبا، فيما جاء العنصر العربي في المرتبة الثالثة من شرقي البحر المتوسط والجزيرة العربية. فما هي المنطويات الفكرية لهذه الخارطة الجينية للشعب التونسي التي ظهرت نتائجها في عام 2016.
يمكن القول إن التقدم العلمي في المجالات كافة أصبح سمة من سمات العصر الحديث وبات العلم في خدمة البشر على كافة الأصعدة الاجتماعية والسيكولوجية والبيولوجية والانثربولوجية وما إلى ذلك؛ هذه المسارات والاكتشافات العلمية الحديثة لا شك أنها سوف تحدث نقلات مهمة في رؤيتنا إلى تاريخ الكون وتطور نشأة الأرض وصولاً إلى بزوغ الحياة الأولى على هذا الكوكب وتطورها حتى آلت إلى أشكال الحياة المعاصرة.
ويمكن القول إن نتائج خارطة تونس الجينية التي نشرت مؤخراً قد أثبتت أن الحدود السياسية بين الدول هي حدود معاصرة مفتعلة لا علاقة لها بتقسيمات الشعوب أنثروبولوجياً بالشكل الذي كنا نتصوره، بل باتت الدول امتدادا لحضارات شعوب أخرى تتشابك في جذورها حول البحر الأبيض المتوسط حيث نشط الفينيقيون واليونان والإغريق والرومان والعرب، جميعها حضارات توزعت هنا وهناك واختلطت فيما بينها على نحو يصعب تمزيقه.
إذن، نستنتج مما سلف أنه لا وجود لعرق نقي وصاف لأي من الأعراق على وجه هذه البسيطة، كما نستطيع الاستنباط مما سلف أن الثقافات المعاصرة هي ثقافات مرتبطة ارتباطاً وثيقا في جذورها القديمة على نحو بنيوي تعكسه الفلسفات البنيوية كأعمال “كلود لفي شتراوس” مثلا بإثبات تشابه التركيبة اللغوية الفكرية بين الحضارات القديمة جداً (حضارات القبائل البدائية في حوض الأمازون مثلاً) في مقابل الحضارات الأوروبية المعاصرة، الأمر الذي يدل على هذا التزاوج الحضاري البعيد المدى الذي مهما انفصل وانشق عن بعضه البعض، فما زال مرتبطاً بنيوياً ببعضه البعض، الأمر الذي يهيئ اليوم لتزاوج حضاري معاصر ربما نستطيع من خلاله أن نسد الفجوة بين الثقافات والأديان أيضاً بوصف الارتباط البنيوي سمة من سمات الحضارة الأساسية القادرة على تجسير الهوة بين الحضارات والديانات على عكس الصراع المرير الذي يتبدى لنا في هذا العصر.