المنسف .. حكاية نصر تعبوي وأدب وثقافة
كنت وظفت جزء من تاريخ اليهود المليء بنقض العهود والغدر والخيانة، والذي تواصل مع أحبارهم وملوكهم وقادتهم ليومنا هذا، حتى أنه طال الملك ميشع العربي الأردني المسالم الذي أحسن لهم أيما إحسان، وميشع هو ملك عادل لمملكة مؤاب قبل ثلاثة آلاف عام تقريباّ.. ووظفته إلى جانب الآية التاسعة عشر من التوراة في الإصحاح الثالث والعشرون من سفر الخروج بمقالة لي، كان عنوانها: “طهي المنسف الأردني.. معاداة سافرة لليهود”.
التوظيف جاء لما في طهي اللحم باللبن من مخالفةً صريحة للعقيدة اليهودية، حيث تُخرج هذه المخالفة اليهودي من ملته.. فبحسب التوراة المعتمدة لدى اليهود وفي سفر الخروج الإصحاح (23) تقول آية (19): “أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ.” ففي هذه الآية تحريم واضح لطهي لحم الجدي بلبن أمه.. ولأن اليهود جادلوا ربهم؛ كعادتهم.. فقد آتاهم ربهم التفسير تلو التفسير حتى حرم عليهم كل ما هو لحما مطبوخا بأي لبنٍ كان، وذلك لكثرة الخزعبلات المحيطة والساءدة آن ذاك.. بحسب تفاسير كهنتهم؛ والتي تطرقت إلى ضرورة التشدد الكهنوتي في مخالفة طقوس وثنية كنعانية متزامنة مع بدايات علو اليهود بعد ذلهم حينها.. حيث بدأت معها خياناتهم لطالما طالت واستطالت لهم أظافر وتمكنت.
وبَيَّنْتُ – قبل غيري – أنه بهذا التحريم ضَمِنَ العربي الأردني ميشع، ملك مؤاب (مملكة مؤاب هي: مملكة عربية أردنية تشكلت قبل ثلاثة آلاف عام تقريباً على الإمتداد الشرقي للأردن من جنوب الكرك إلى شمال البلقاء).. ضَمِنَ ميشع وقتها إعلان عداء شعبة لليهود منذ ثمانماية وخمسة وثمانون عاما قبل الميلاد.. حيث تـثبت ميشع من نية الغدر المبيته لمملكته السعيدة لدى جيرانه في الإقطاعيات الاستيطانية اليهودية المتنامية حينها بمحيط مملكته.. والتي أخذت تؤثر بثقافات شعبه العقائدية، دون أدنى قبولٍ للدين اليهودي لنفور شعب مؤاب من طبائع اليهود.. المنفرة لغموضها وساديتها.
ميشع القوي والحكيم تناما شعوره بخطر الكهنوت اليهودي وتأكد منه؛ لكثرة نقضهم للعهود والعقود، معه، ومع تجار وصناع وأفراد شعبه.. وحيث حصن اليهود ضياعهم وقصورهم، وسريعا جندوا الجند ورشو عُمال ميشع وقادته واستمالوهم بمحاولةٍ بائسة منهم للإنقلاب عليه، فما كان من عماله وقادته المحصنون بوفاء الرجال واخلاق الفرسان إلا أن كانوا هم الإنذار الأول له.. فنبهوه، فتنبه، وتدارك ميشع الأمر، وسارع بإصدار مرسوم يطلب من شعبه الأردني طهي اللحم باللبن؛ ليماييز بين من هو مؤابي ويهودي.. فاستجاب له شعبه عن بكرة أبيه, لحبهم له ولمعرفتهم بأنه هو سبب عيشهم الرغيد وسبب إزدهار مملكتهم التي نشأت على أرض تجذروا بها فأوفتهم وأوفوها..
ميشع.. الملك العادل والباني، شيد مملكته الأردنية العربية، فازدهرت، وعلا بنيانها، وغلّت زراعتها، وجادت صناعتها، وأمتدت تجارتها.. لم يعاني إلا من غدر كهنة انقلابيون وجمهرة ملوك اليهود ونقضهم العهود والعقود وسوء جيرتهم، رغم أنه أعطاهم في كنفه الأمن والأمان بعد تغريبة مصر المعروفة.. وحيث جاء تحضيرهم للحرب ضده، لإشباع نزعتهم الشيطانية، وتعطشهم لسفك الدماء، ولاحتلال أرض مملكته، وتخريبها، وإفسادها، وقتل مصلحيها، وطمس مآثرهم الفطرية الكريمة وقيمهم الإنسانية العميقة المتأصلة.. كيف لا..؟! وها هو استعمار القرن العشرين الميلادي؛ قد سلب مسلة ميشعنا العظيم من “ذيبان” ليضعها اليوم بمتحف اللوفر.
جاءت مخالفة العقيدة اليهودية لطهي اللحم باللبن من قبل شعب مؤاب العربي الأردني كله بهذا الشكل التعبوي الثقافي وكأنها إعلان حرب وعداء على اليهود الغادرين.. ولطالما خرج المؤابيون على ثقافتهم المسايرة لليهود وتعاليمهم؛ عرف ميشع ساعتها أن شعبه جاهز لردع غدر اليهود ولجم أطماعهم بعدما أخبرته عيونه أن شعبه أعلن العداء لليهود مخالفا العقيدة اليهودية بطبخ اللحم باللبن وصناعتهم لما يسمى حتى الآن بالمنسف لنسفه الثقافة والعقيدة اليهودة التي أصبحت تسود وتتغلغل حينها… وكان أن انتصر جيش ميشع نصراً مبينا لطالما أكل جيشه المنسف الذي جلب له حظ النصر على اليهود المتأمرين.
الأردنيون استطيبوا هذه الأكلة واستمروا بطبخها إلى يومنا هذا لطيبها ولجزالتها وتفاؤلا بالنصر الذي طالعهم معها، وأتخذ سكان أرض الأردن وأرض مؤآب من المنسف أكلتهم الشعبية المحببة والتي أصبحت ساءدة عبر البلاد.. وأصبح يكرم فيها الأردني ضيفة ويولم منها ويقري بها ويعزم عليها.. معلنا بذلك عداءه لليهود طالع كل منسف يطهيه الى يوم الدين..
وليعلم الأردنيون أن اليهود يأخذون ذلك العداء على محمل الجد ويعتبرون الأردني العدو الأزلي لهم.. علم ذلك الأردني أم لم يعلم، فحيث يعلن الأردني كلما طهى المنسف عداءه لليهود فهو يؤكد بذلك أزلية العداء المرتبط بطهي المنسف منذ ثلاثة آلآف عام.. هذه الكلة ولدت أردنية بحت من رحم أردني عتيق، وحيث سمي بالمنسف لنسفه كل العهود والعقود مع اليهود.. فلن تنفع مع اليهود أية عهود خصوصا وهم يعتبرون أرض الأردن ضفتهم الشرقية ويجب أن يحتلوها باجتثاث أهلها، كي يتقوا شر المنسف الذي يتطيرون منه ومن أهله…
وبالمناسبة.. عملاء إسرائيل متورطون الأن مع اليهود بعدما عرفوا سر المخالفة العقائدية لمنسف اللحم واللبن.. وإنني أنصح هؤلاء بطبخ منسف الدجاج واللبن.. ومع ذلك فأنا لا أنصحهم بأن يأمنوا شرهم.
عاش الشعب الأردني حرا أبيا.. وعاش موروثه العظيم.. الذي تولدت منه أكلته الشعبية على إيقاع حرب إقتلاع الشر.. فالمنسف في الذاكرة الوطنية، هو جذر النصر والكرامة.. وسيبقى المنسف بمثابة إعلان عداء أزلي بين اليهودي والأردني قبل كل الناس، ملخصا عدائنا الأزلي بطنجرة واحده.. تحمى على لهيب ينسف عقيدتهم التوراتية وكل عهودهم مهما تعددت. وها هو المنسف قد جسد صراع حضاري جذروه ضاربة في تاريخ المنطقة.. فأصل حكاية تسمية “المنسف” هذه تفرض علينا مراعاة قداسة “المنسف” وتجعلنا نؤكد قداسته بتصدر مفهومه لأدبيات ثقافتنا وتاريخنا الوطني العميق.
ويجعلني هذا المقام أقدم شيئا في أداب المنسف الخاصة والعامة.. بحسب التالي:-
حيث أرى أن هناك تقاليد واعراف وعادات وأحكام للمنسف وهناك آداب الجلوس للمنسف وآداب عامة للطعام والمنسف منها ما أذكره تاليا ومنها ما قد أكون تناسيته لعدم أهميته.. وزادت حضارتنا في ترسيخ آداب تناول المنسف وتحسين وتطوير كل سلوك يؤكد الفهم الصحي والمعاني الكريمة للشعب الأردني لشعب العروبة والإصالة.. وجاءت في أغلبها لمراعاة الذوق ولللإلتزام بالاعراف الصحية والسنة المحمدية وما إلى ذلك.. وكنت قد أخذتها كلها عن أبي وجدي والأثر المنقول في روايات الكبار لي، ومنها التالية:-
1) يجب مراعاة الآخرين إثناء الأكل والعمل على عدم تقزيزهم وتنفيرهم.. لا بل يجب تلطيف جوهم لفتح شهيتهم.
2) مراعاة مقولة “كل أكل الجمال وقوم قبل الرجال” أن تنفذ بخفة دم ورشاقة بدون أي شراهة ونهم وعنفوان في الحركة (تحتاج لتدريب مسبق).
3) لا تأكل إلا مما يليك.. فلا يجوز مد اليد أمام من يجاورك ولا يجوز أن تتقاطع يدك مع يده ومكان أكله، ولا يجوز أخذ اللحم من أمام الغير.
4) جهز اللقمة متوسطة الحجم ولا تزيد عن حجم كف اليد ودحبرها بشكل جيد بحيث يتم “دربلتها” قبل أن تتناولها وتلقمها الفم. ولا تملئ الفم بالطعام وتعمل منه بالون.
5) لا تستخدم إلا يد واحدة للأكل وهي اليمنى, ويجب أن تكون اليد الأخرى خلف ظهرك ما أمكنك.. واذا استعصى عليك قطع اللحم يمكن أن تطلب مساعدة أحد المجودين.
6) عند تجهيز اللقمة لا يجوز استخدام كل اليد لبلعها, ولا يجوز ملامسة أي جزء من الفم باليد وعلى الإطلاق، ولا تستخدم إلا ثلاث اصابع باليد اليمنى لمناولة اللقمة للفم (الشاهد والوسطى لتوجيه اللقمة والإبهام لدفشها إلى الفم).
7) من المعيب النفخ على اللقمة حتى لو كانت ساخنة جدا وهذا مخالف للسنة المحمدية وللأعراف الصحية.
8) معيب كشف ارضية سدر المنسف أثناء الأكل.. وهذا يكون لسدر المنسف العميق من النوع القديم وليس للسدر المنسف الحديث والحالي.
9) معيب مد اليد على الراس لأكل اللسان أو أي جزء منه ما دام هناك رجل كبير وذو شأن على طورة المنسف.
10) لا تتحدث وفي فمك طعام انتظر حتى تبلع الطعام ثم تحدث.
11) كل قطعة اللحم الموالية لك كاملة ولا تحاول ان تعبث باكثر من قطعة بآن واحد, واخلط معها الرز واللبن.
12) اذا جارك او احدهم كان مظلوما بتوزيع اللحم المتواجد وامامه القليل منه وانت يواليك الكثير فقدم ما تراه مناسبا له من اللحم.
13) اترك كمية من الطعام ورائك لان هناك من ينتظر تنا ول الطعام بعدك.
14) الاكبر شئناً على المنسف لا يقوم عن الطعام أولاً وينتظر حتى يكمل الجميع.
15) لا ينثر الطعام على الطاولة ولا على الأرض خلال الاكل.
16) اطلب ما تحتاج من ماء او لبن من المعزب وبأدب.
17) لا تلوث ذقنك وشاربك ولحيتك بالطعام واللبن.
18) لا يجوز القيام إلى الطعام قبل أن يأذن صاحب الزاد ويثني على الحضور بقوله افلحوا (تفضلوا) على الميسور.. وما إلى ذلك.
19) يجب غسل اليد قبل تناول الطعام فهي سنة عن المصطفى عليه أفضل صلاة وأتم تسليم وال بيته الطاهرين.
20) لا نتقدم إلى الطعام قبل الرجال الأكبر سنا وشأنا.
21) لا تمد اليد للرأس المتربع على المنسف إلأ إذا أشار المعزب بهذا أو إذا قال اكبر الجالسين سنا أو قدرا: “أكرموا كبيركم”.. بمعنى أنه يسمح بالرأس، على أن تقدم أول قطعه من الرأس له.. سواء كانت من اللسان أو الجضم (اللحم على الحنك)،.. العادة أن يترك الرأس للمعازيب، ومعيب أن تأكل من الرأس ولا تقسم على الحضور.
22) إذا أكرمنا احدهم وفت لنا لحم أو طعام أما أن نأكله أو نأكل حوله ولا نعيده لصاحبه.
23) لا نمسح اليد بطرف السدر.
24) لا نلعق اليد باللسان أثناء الأكل. ويجوز بعد الانتهاء من الطعام حفاظا على النعمة على أن يكون بعيداً عن مرأى الآخرين.
25) لا ننفض اليد فوق المنسف.
26) لا نعيد شيء بقي باليد من الطعام إلى السدر.
27) لا يفضل الحديث إثناء الطعام.. إلا إذا كان من المعازيب، لإناس الضيوف على أن يشعرهم بأنه يأكل.
28) لا تتناول إلا قطعة لحم واحدة ولا تتجاوز على غيرها (ففي ذلك شراهة).
29) قدم اللحم لمن يجاورك وللضيف الغريب بوضعها أمامه.. وللمعزب أو لمن يطوف من الشباب بالماء والشراك والشراب بوضعها بفمه..
30) لا تطلب أي شيء من المعازيب (غير حق الضيف) وما يخص المنسف وهي ماء وخبز شراك ولبن وما زاد عن ذلك فهو كرم من المعزب وإكرام للضيوف.
31) اجتهد أن لا تخرج أصوات منك إثناء مضغ الطعام أو تناوله (النهم في الأكل غير محمود).
32) إذا كنت اكبر الجالسين إلى المنسف أو ذا قربى للمعزب فلا تقم عن الطعام إذا شعرت بان هنالك غريب مازال يأكل.
33) لا يجوز تقديم الأكل للضيوف بدون ملح أما إذا قدم فهذا يعني نقض العهد بين صاحب الزاد والضيف، ويتوجب ترك الزاد فورا.
34) يلتف حول المنسف عدد يتناسب مع عدد الحضور دون التضييق على المسافة الكافية لتحريك الجسم واليد.
35) تقديم المناسف على مناضد، وتوضع على المنضدة البعيد ثم الأقرب فالأقرب، لكي لا يقع شيء إثناء حركة الضيف والمعزب.
36) المتواجدون على منسف يكون معزبهم الأقرب للمعزب الرئيس.. ويكون هو معزب على الموجودين.
37) لا توضع المنسف في مكان مكشوف للشمس أو شمسه حامية ساطعة.
38) لا يقدم المنسف ساخناً بشكل يؤذي الضيف خصوصا إذا كان جاعاً ولا يقدم باردا إلى حد يختلف طعمه وتتدنى بهجته.
39) لا يجوز أن يكون (اللبن أو الشراب أو اللي) خفيف (مرق) كثير الماء غير خاثر أو فاقس أو قليل السمن والقفرة.
40) لا يجوز تقديم اللحم غير ناضج أو مائل للسواد أو للاحمرار فهذا دليل على البخل، أو جهل الطباخ، أو سوء نوعية اللحم نفسه.
41) للضيف الحق بترك الطعام ونفض اليد منه إذا وجده بلا ملح.
42) لا يجوز أن تعيب الطعام بأي شكل ولا ذكر ما فيه أو بما ليس فيه بالذم ويجوز ذكره بالخير فقط.
43) يقدم المنسف حالياً على شكل صرر للتوفير ولمراعاة وصيانة النعمة.
44) يمكن أن يقدم المنسف كطبق البوفيه المفتوح ويمكن تعبئته بصحون السكب ليتمكن المعزب من المحافظة على نظافة بقية المنسف.
45) يُطهى المنسف من لحم الجدي والخراف صغيرة السن لتوجيب الضيوف ولتقديم الأطيب والأزكى لهم ويمكن أن يقدم من الماعز والغنم على أن لا تكون من “الهرشة” وكبير السن التي لا ينضج لحمها.. ولا يطهى المنسف بلحم البقر والجاموس والإبل.
46) يُطهى المنسف بلبن الجميد ولبن الغنم ويفضل بالجميد الكركي وكذلك باللبنة الجرشية وهي ذات نكهة طيبة جدا ويمكن أن يكثف ويخثر لبن المنسف بها ويشتد أكثر من أي مصدر آخر.
47) يقدم المنسف حاليا مع الرز المطبوخ في حين أنه كان يقدم مع البرغل ولا زالت مناطق حوران تطهو المنسف بالبرغل.. وهنسف البرغل يمكن له ان يشرب كميات اكثر من اللبن ولذلك يكون متماسكا أكثر وأزكى وأطيب وهو أخف على المعدة من منسف الرز ويمكن للإنسان ان يتناول كمية أكبر منه.
48) يقدم مع المنسف خبز الشراك ويمكن أن يصنع منه الفت بحيث يقطع خبز الشراك العويص وغير الخامر ويمز باللبن المطبوخ ويقدم مع منسف الرز لتتماسك اللقم أكثر.
49) يزين المنسف بالمكسرات وأهمها الصنوبر واللوز.
50) توضع الذبيحة كاملة على المنسف للدلالة على الكرم وتوجيب الضيف ويوضع كل لحمها على المنسف بالاضافة الى الرأس وعند البعض يقدم أيضا المعلاق.
51) تقدم القهوة العربية السادة مباشرة بعد الانتهاء من أكل المنسف للمساعدة على التهضيم.
أرجو من الجميع هنا نقد ما كتبت والتصحيح أينما أخطأت وتصويب ما جانب الصواب منه.. والتأكيد على الصحيح وتوضيح ما هو ليس بواضح.. مع احترامي للجميع..
علما أنني سأبوب هذه الأداب بشكل أفضل لاحقا..