المناهج والتعليم في مواجهة العولمة / د صالح نصير

المناهج والتعليم في مواجهة العولمة
هو فصل في كتاب The Curriculum Studies Reader
والكتاب عبارة مجموعة من المقالات التي قام على تحريرها أستاذان من حامعة إنديانا وسنترال فلوريد الأمريكييتن. أما كاتب الفصل فهو البرفسور ديفيد جفري سميث. وقد أوصى به أخي الأستاذ التربوي نضال – حفظه الله- حيث قرأه من قبل. وبعد قرآتي للفصل، قمت بمناقشته معه كعادتنا في حياتنا المهنية، حيث كثيرا ما تكون جلساتنا نقاشات حرة نتبادل فيها الآراء والأفكار، وهذه الحالة لم تتوقف منذ وعينا على القراءة والتعلم والتعليم.
تناول الفصل مفهوم العولمة وعلاقة هذه الظاهرة بالتعليم عامة و المناهج خاصة. ولأن الكاتب متخصص في هذا الميدان، فقد قدّم آراء جديرة بالتقدير والاحترام، إضافة إلى أن الكثير من تلك الآراء تساهم في نشر الوعي بمفاهيم الإصلاح التربوي والتعليمي. قسّم الكاتب العولمة إلى ثلاثة أنواع أو تمظهرات للعولمة: فالنوع الأول من العولمة يتمثل في بعث الليبرالية الراديكالية “المتشددة” أو الجديدة وتعود إلى بداية عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. والعولمة الثانية فهي عولمة تتعلق بالاستجابات العالمية للظاهرة من حيث رفضها أو قبولها. أما العولمة الثالثة فهي تتعلق بظروف تظهر الآن لتساعد الدعوات لحوار عالمي من أجل مستقبل إنساني مستدام.
وما يهمنا هنا الاستجابة العالمية لهذه الظاهرة التي تختلط بها الثقافة بالسياسة والاقتصاد. ولعل مخاطر الهيمنة الرأسمالية على العالم سيؤدي إلى تغيير حقيقي في الهويات الوطنية والقضاء على الثقافات المحلية وبعض اللغات في مناطق ضعيفة ومستضعفة لصالح هوية أكثر ليبرالية ورأسمالية تخضع لقيم الغرب وثقافاته. ولعل الأغرب هو قناعات “الرأسماليين” بأن الديمقراطية تعمل على كبح جماح القرارات التي تتعلق برأس المال والاقتصاد مما يؤدي إلى بطء حركة الاقتصاد، وفي هذا إشارة إلى أن الاستبداد خادم للرأسمالية وخصوصا عندما يتعلق الأمر بمصالح الغرب والاقتصاد الغربي. ومن هنا يمكن فهم تدبير “الانقلابات” ودعم المستبدين في عالم العرب والمسلمين لتبقى الاسواق مفتوحة وبراميل النفط تتدفق على الغرب دون حاجة لمشاركة شعبية في اتخاذ القرار السياسي الذي قد يعيق” الاستعمار العولمي الجديد”. ولذلك فإن “السوق” هو الذي يتحكم بالديمقراطية وحرية الإنسان وحقوقه.(373 -372).
ومما يشير إليه الكاتب أن “المنطق الواحد” الذي تصر عليه العولمة اليوم مستمد من التراث المسيحي الذي أراد “عولمة” العالم ضمن منطقه الديني، حتى جاءت الليبرالية والعلمانية لتقضي على هذا الحلم وتجعل العلمانية والليبرالية هما المنطق الوحيد، ولكن دون إغفال للبعد “الروحي” الشكلي الذي غرسته المسيحية وإن بشكل غلالة رقيقة لاتقدم ولا تؤخر. فلاغرابة أن نسمع عبارة “السوق هو الإله”. بمعنى آخر، الاقتصاد هو المسيطر على مقدرات الأفراد والشعوب. وقد جاءت العولمة لتحصر الثروة في يد أعداد قليلة من الرأسماليين والشركات “التريليونية” مثل أبل ودوتش موبيل وجي أم وجنرال الكترك ونسي المؤلف شركات مثل عملاق الأدوية فايزر والأسلحة مثل جنرال داينامكس ونورثرب وبوينغ وغيرها.
ويرى الكاتب أن مخاطر العولمة على التعليم أنه أخرجه من يد الدولة إلى يد اصحاب المصالح الذين يريدون توجيه التعليم لخدمة مصالحهم. حيث أصبح التعلمي مجرد خادم “للآلة” وللإقتصاد وليس العكس. ولذلك أطلق جون مك مرتري على “الاقتصاد المعرفي” مسمى آخر هو ” اقتصاد التجهيل”.
وقد عمل التعليم المبني على “الاقتصاد ” إلى تغيير في مفهوم الزمن مما أدى إيجاد التناقض بين الخبرة و الأخلاق لدى الناس، والهجرة المستمرة ركضا خلف فرص العمل، وعدم “تمهين التعليم” لأن متطلبات العولمة تقتضي الاستمرار في “تغيير المهارات” بحيث أصبح الفرد ناجحا اقتصاديا ولكن حياته الاجتماعية لامعنى لها، ولايعرف الفرد كيف يمكن أن يدبر أمر حياته مع الآخرين بسبب عدم الاستقرر. وقد تعزز مفهوم ” الإنسان الاقتصادي”Homo Economicus كنوع إنساني جديد، أدى إلى أن تصبح القيم الفردية مرتبطة ارتباطا وثيقا بأخلاق السوق: الأنانية والطمع وتدمير الآخر. كما حصل في محاولات تدمير اقتصاديات الدول الفقيرة لصالح الدول الكبرى، كما حصل في دول ناهضة كما في “نمور آسيا” والفقيرة مثل مدغشقر وجزر القمر وغيرها.
ولذلك فإن التعليم والتربية وخلق حياة أفضل للإنسان قدأصبحت مرهونة بالسوق وقيمه. وقد تمثل ذلك في تدمير التعليم العام بخصخصته بطرق شتى، ورهن التعليم في دول العالم الثالث بيد البنك الدولي. حيث اشترط البنك الدولي على الدول المقترضة خفض ميزانيات التعليم كما حصل مع كوستاريكا، وخفض رواتب المعلمين كما طلب من المكسيك. وللعلم فقد استعرض الكاتب التعليم في كل مناطق العالم من أوروبا إلى أمريكا فأفريقيا وشرق آسيا، ولم يتحدث عن التعليم في المنطقة العربية و الإسلامية. وكأن هذا التجاوز فيه قدر كبير من “الاحتقار” لعالمنا العربي الذي لايمثل شيئا على خريطة التقدم العلمي والتعليمي.
وأما المناهج فهي ستكون انعكاسا لهذا الواقع السيء والذي يغفل الجوانب الإنسانية لصالح الطمع والاستعمار الاقتصادي، فضلا عن القضاء على الهويات الوطنية لضالح هوية تخدم ذلك الاستعمار. وغذا نظرنا في مناهج كثير من بالد العرب، رأينا أن هذه المفاهيم بدأت تغزو تلك المناهج. فالأزياء والأشكال وحتى الانتماءات التي يبديها شباب العالم للأندية الرياضية أوالتماهي مع الفرق الموسيقية “الشعبوية” والرطانة بالكلمات والعبارات الإنجليزية واللغات الأخرى، مع إظهار عدم الاحترام، بل الجهل باللغة العربية، والارتماء في أحضان ثقافات “الآخر” أمر يمكن فهمه في ظل ما تقدم من آراء وأفكار.
والمطلوب “ثورة للمناهج” تعزز القيم التربوية النبيلة إسلاميا وإنسانيا، وتغرس في المواطن قيم الانتماء والولاء للثقافة العربية الإسلامية، ولاتحجر عليه التواصل مع الشعوب بثقة في الذات والأخذ بما يفيد لا مجرد الصور و الأشكال و الهيئات التي نراها تغمر شوارعنا بملابس وقصات شعر وأساليب حياة لا أثر فيها لقيم الدين و المجتمع العربي المسلم و تراثه وتاريخه.
ولعل الهجمة على تراث الأمة وتاريخها والتزهيد بهذا التاريخ بالتركيز على بعض جوانب القصور والضعف يمهد لإنسان عربي لايدرك قيمة هذا التراث.
وخلاصة القول في هذا المقام هو أن مانراه من تراجع في التعليم في شتى مراحله ليس إلا نتيجة حتمية لهذه العولمة التي دمرت القيم الإنسانية وجعلت الحياة مرهونة بالعبودية للسوق ومتطلباته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى