عبد الحليم أبو دقر – قال أبو حسن السائق على خط عمّان الشام ونحن في سيارته، أنا وسلطان الكآبة والرجل الذي في المقعد الخلفي متوجهين إلى دمشق: «خمسمئة دينار، من (ساقف) إلى لاقف إلى قبّاض الأرواح، استقرضتهم، لممتهم بالدينار حتى أصلح سيارتي، حتى أحركها من أمام الدار، ثم أعطيتهم للشيخ.. السيارة ما تزال أمام باب الدار، وأنا ما أزال أشتغل على سيارات العالم بعد كل هذا العمر.. وأنت يا مصباح تسألني كيف ضحك عليّ ذلك الشيخ، وأخذ مني الخمسمئة دينار. وأنا أقول لك إن الشيخ أخذ الخمسمئة دينار على البارد المستريح، حتى إنه لم يكتفِ بها، فقد أخذ زوجة شريكي السائق اللاذقاني الذي كان معي على خط عمان الشام، والله أعلم أين هو الآن شريكي في التنقيب عن الذهب. أخذ الشيخ زوجته الصبية الجميلة البيضاء، ولولا تدخلي في اللحظة الحاسمة لأخذ ابنته التي وقعتُ في حبّها من أول نظرة، ابنته التي هي الآن كل حياتي.. قادر رب العالمين أن يجمعني بها من جديد، وقريبا.. ما كنت سأسمح للشيخ بالاقتراب منها، فهي روحي، عمري، أجمل ما في حياتي.. ما كنت سأسمح له، حتى لو قطّع عمّكم أبو حسن شقفاً، أكبر شقفة بحجم…»، وصار ينظر حواليه، فأشرتُ إلى علبة سجائري، فقال: «وأصغر»، والتقطها، وأخرج منها سيجارة وأشعلها، وأكمل: «لو أن شريكي السائق اللاذقاني يمسكني الآن، يقطعني شقفاً بحجم هذه السيجارة..»، وأخذ نفسا عميقا من السيجارة، ونظر فيها، ورقّصها بين أصابعه، وأكمل: «هذا بالنسبة لي أنا، أما بالنسبة للشيخ فإنه إذا أمسكه، إذا وقع الشيخ بين يدي شريكي اللاذقاني في يوم من الأيام، فلا يمكنني تخيل ما سيفعل به.. اللهم نجّنا..».
ارتجف ابو حسن، ثم عاد يقول: «ولكن مهلاً، مهلاً، فلا داعي للخوف، حتى يتحقق هذا الكلام، ويمسك بي شريكي السائق اللاذقاني، لا بدّ من توفر شروط، أولها: يجب أن يستعيد عقله. وحتى يستعيد عقله، لا بدّ أن يستعيد زوجته، وحتى يستعيد زوجته، لا بدّ أن يعثر على الشيخ».
وسألَنا أبو حسن: «حلو؟!».
وأجاب: «جميل جدا، لأن الشيخ اختفى وكأنه لم يكن موجودا في يوم من الأيام».
وأخذ أبو حسن يتراقص، ويفرقع أصابعه، ويصفق، ويقول: «معناه ما يزال عمكم أبو حسن في أمان، ورغم ذلك فأنا حزين على شريكي السا ئق اللاذقاني المهذب الجميل.. كان معنا على خط عمان الشام قبل أن ينخرب بيته.. في لحظات كثيرة أشتعلُ بالحماسة، وأتمنى أن يمسكني، ويعاقبني على كل ما تسببت به له».
بكى أبوحسن: «اللهم إني أعوذ بك من ساعة الغفلة».
وتساءل: «كيف خربنا بيت شريكي؟ كيف دمرناه بلحظة؟ أين كانت كل هذه المصائب مخبأة له؟! كان سائقا شهما، كنا نفتش عن الذهب، أنا وهو. الشيخ الذي اعتمد عليه حتى يشرف على عملية الحفر مات قبل إتمام العملية بيوم واحد.. وحضرتي بدل أن ألْبِد، وأنتظر، فيُحضر شريكي شيخا آخر من منطقته، لم أصبر، ركبني مليون عفريت، عقلي لم يحملني وفي جيبي خمسمئة دينار، قلت لشريكي: سأحضر الشيخ من عمان، ولن نؤجل الحفر ولا ساعة. فقال: لن أخالف لك أمرا في يوم من الأيام. كان هناك شيخ نتن أعرفه، أول ما وصلت إلى عمان، وقبل أن أرجع إلى بيتي، إلى أولادي.. طيران إلى داره، قلت له.. قلت له..» (واستسلم أبو حسن للبكاء).
هنا خرج سلطان الكآبة عن صمته، وسأله: «أنت بالأساس، بماذا كنت تحتاجه؟!».
استغرب أبو حسن سؤال سلطان الكآبة، ونظر فيّ نظرة فهمتُ منها أنه يريدني أن أشرح لسلطان الكآبة، فقلت له: «حتى يتولى الشيخ أمر العفاريت التي تحرس الذهب، وحتى يساعد في فكّ الرصد، حتى لا تلمس الشياطين والعفاريت والجن والمردة عمّك أبو حسن، حتى ما..»..
وصار أبو حسن يضرب وجهه: «أين كان عقلي، السيارة ما تزال أمام الدار تحتاج الى خمسمئة دينار حتى تتحرك.. خمسمئة دينار كانت بين يديّ وأنا..».
قلت له: «يا رجل، وَكِّل الله، مالَك، كبّرها تكبر، صغّرها تصغر، كل الدنانير فداك، صحتك في الدنيا».
استعاد أبو حسن هدوءه وأكمل: «قال الشيخ: لي ثلاثة شروط عليك أن توافق عليها أولاً. قلت له: أنت فصّل ونحن نلبس».
صار أبو حسن يغني: «أنت فصّل ونحن نلبس»، وضرب المقود. تماسك من جديد، وأكمل: «قال الشيخ: الشرط الأول (واندفعت موسيقى حماسية من فم أبو حسن) آخذ خمسمئة دينار وأضعهم في حسابي في البنك قبل أن أتحرك لأي مكان معكم، وعندما أصل إلى المكان الذي تريدونه، وأنتم أحرار في اختياره، إذا بدأتم النبش، حتى لو حركتم قبضة تراب واحدة، واكتشفتم بعدها أنكم في المكان الخطأ، فلن أتزحزح معكم متراً واحداً».
قال أبو حسن: «سألته، وثانياً؟ فقال: إن لي شيطاناً عنيداً لم أسيطر عليه إلى الآن، وهو يعاودني من حين إلى آخر، خصوصاً إذا غيرت مكان نومي، وتزداد شراسته كلما اقتربت من منطقة يضربها هواء البحر، وإن رأيتموه يركبني فلا تقتربوا مني، ولا تحاولوا منعي عما أكون فيه، وإلا ضيّعني وضيّعكم.
قلت له: وثالثاً؟! فقال: إنني، وكما تعلم، سأبدأ منذ الآن التحضير، ولن أتمكن من التوقف في وسط الطريق، إذا بدأنا علينا أن ننهي، إذ لا يمكن أن أحضر جماعتي، وأن أقول لهم: أنا محتاجكم، فيوقفون أعمالهم، ويهدمون خيامهم، يحملون زوجاتهم وأطفالهم، ثم أقول لهم ارجعوا، الشباب غيروا رأيهم. هذا لا يجوز، إذا بدأنا علينا أن نكمل.. إذا وافقتم قولوا وافقنا، واذا لم توافقوا قولوا لم نوافق. هذه نقودكم، إذا وصلت البنك فلن تعود.
كنت معمياً بالذهب، لم يفارق وهجه عيني ولا لحظة.. لو تشقون عن قلبي الآن ستجدونه محترقاً بمنظر الخمسمئة دينار وهي ملقاة على الطاولة، وعيون الشيخ لا تفارقها. أيّ أعصاب حديدية كانت لدي؟! حبيباتي التي متُّ في الركض وراءها حتى أصلح سيارتي، حتى أحركها من أمام الدار، أول ما أمسكتها، أول ما صارت بين يدي، أضعتها، أعطيتها للشيخ، كنت حماراً.
قلت للشيخ: وافقت (أجهش أبو حسن في البكاء).. رفع الشيخ الخمسمئة دينار عن الطاولة، أدخلها في جيبه، وضعها بجانب قلبه.. لم أجد أحداً يقول لي: انظر أين غصت يا حيوان. كل ما كنتُ أحتاجه معلفاً أربط إليه، وسطل ماء أرطب فيه لساني الثخين، وحجر ملح أظل ألعق به».
وأعاد: «أقسم بالله أنني لم أكن أعرف أنني أمام شيطان.. لا تتأسفوا عليّ، أنا أستحق كلّ ما يصبيني، أنا غبي، أنا أهبل، أنا، أنا».
أوقف أبو حسن السيارة واندفع منها وهو يضرب حاله، وينعف التراب على رأسه، وينوح، ويولول، ونحن نحاول أن نهدئه، وأن نعيده إلى مكانه خلف المقود..
وجدت نفسي أصرخ في سلطان الكآبة: «هذه آخر مرة تطلب من أبو حسن أن يروي أي قصة، ممنوع تفتح فمك مع أبو حسن حتى نصل إلى دمشق، مفهوم؟».
رد سلطان الكآبة: «مفهوم، ولكن أنت من سأله عن قصة الخمسمئة دينار.. أنا، أبو حسن كله على بعضه، غير قادر على سماع كلمة واحدة منه، إذا قلت لك إنه مرّضني بما يرويه من قصص، أتصدّق؟»
ثم قال لي سلطان الكآبة: «أنا متأكد أنه أول ما سيرجع أبو حسن إلى السيارة، ونعاود السير إلى دمشق، ستسأله عن زوجة شريكه السائق اللاذقاني الجميلة، خفيفة الدم، البيضاء..». قلت له: «لا، أبداً..».
ثم انهال سلطان الكآبة على يدي يقبّلها، وهو يردد: «لا تسأل أبو حسن عن قصة هروب زوجة السائق اللاذقاني مع الشيخ العَمّاني».
قلت له: «لن أسأله عنها، فهى لا تهمني الآن في شيء، حتى إنني حقدت عليها، أنا لا أفكر في معرفه أي شيء عنها، فهي لا تستحق. كل ما يهمني الآن، وكل ما أريد أن أعرفه، هو ما حصل لابنتها مع أبو حسن، وكيف تمكن من إنقاذها من بين يدي الشيخ، وكيف وقع في حبها، وكيف انقلبت حياته أول ما رآها، وكيف.. وهل بادلته المشاعر نفسها.. ما كان موقفها من أول..».
إلا أن سلطان الكابة أخرج حقيبته من الصندوق الخلفي لسيارة أبو حسن يريد العودة إلى عمان، فاندفعنا جميعا لثنيه عن ذلك، بمن فينا الرجل الذى كان غافيا في المقعد الخلفي دون أن يفهم شيئا مما حصل..