المفارقات اللبنانية الصارخة / عبدالباري عطوان

زائر بيروت هذه الايام يجد كل الوان الطيف السياسي والثقافي العربي فيها، وصالوناتها الفكرية تتحول الى حلقات نقاش ساخنة، فهناك الليبيون والعراقيون والسوريون والخليجيون والاسلاميون من عدة دول، بالاضافة الى اللبنانيين من مختلف الاتجاهات، وهذا كله في وقت تحظر دول خليجية على رعاياها زيارة لبنان، وتصدر الولايات المتحدة تعميما لرعاياها فيه بالمغادرة فورا بسبب تدهور الاوضاع الامنية، في وقت لا تجد فيه مقعدا على الطائرات المتوجهة الى البلد هذه الايام، الا بشق الانفس بسبب موسم الاعياد.
***
اللبنانيون، ومعهم كل الحق، يعتقدون ان العالم كله منشغل بهم، والقضية الاسخن محور كل النقاشات في دواوينهم، وعلى شاشات محطاتهم، وهي صيغة التسوية الجديدة لاخراج البلاد من حال الاحتقان السياسي التي تعيشها، وملء الفراغ الناجم عن عدم وجود رئيس جمهورية، فالكل يتحدث عن هذه الصيغة التي تقوم على ثنائية تولي السيد سليمان فرنجية الرئاسة، مقابل تولي السيد سعد الحريري رئاسة الوزراء، لستة اعوام لكل منهما، وهي الصيغة التي ما زالت “مفترضة”، ولكنها نجحت في امر واحد، وهو تفجير الخلافات في المعسكرين المتنافسين، اي معسكر حزب الله (8 آذار)، الذي يدعم العماد ميشال عون، ومعسكر الحريري (14 آذار)، الذي يدعم سمير جعجع للرئاسة، ويعتقد اللبنانيون ان هذه الصيغة التي تعتمدها السعودية، او تقف خلفها، هي مقدمة، او فأل جيد لتسويات في سورية والعراق واليمن، وكل الصراعات المتأججة في المنطقة، فلبنان في نظرهم هو “محور” المنطقة، وعصبها الرئيسي، و”التيرموميتر” الذي يمكن من خلاله قياس حرارة النزاعات فيها، سخونة او برودة.
الجميع يراقب ردة فعل “حزب الله” والسيد حسن نصر الله على هذه الصيغة، وما اذا كان يؤيدها او يعارضها، ولكن السيد نصر الله يتحلى بالصمت، ويبقي اوراقه قريبة الى صدره، ولا يكشف الا القليل منها، وفي جلسات مغلقة مع زواره، وآخرهم النائب فرنجية نفسه، ويكتفي بحَث حلفائه، وخاصة العماد عون مع التحلي بالصمت، وضبط النفس، وعدم الاقدام على اي رد فعل مندفع، ويبدو انه، اي العماد عون، التزم بالنصيحة من حليفه الاوثق.
المقربون من السيد نصر الله يقولون، والابتسامة مرسومة على وجوههم، ان من يقبل بالنائب فرنجية رئيسا للجمهورية، الذي يعتبر من حلفاء سورية الاكثر شراسة في الدفاع عنها وسياساتها في لبنان والوطن العربي، يمكن ان يقبل، وفي مرحلة لاحقة، بالعماد عون عدوها القديم، الذي خاض حربا ضدها، وتحول لاحقا الى “صديق” لها، مع بعض التحفظات، مضافا الى ذلك ان الاخير، اي العماد عون، يحظى بشعبية اكثر في اوساط المعسكر المسيحي اللبناني من نظيره فرنجية، واحد ابرز حلفائه في معسكر “الممانعة” اللبناني.
طلب الولايات المتحدة من رعاياها مغادرة لبنان فورا، وتعرض السيد هانيبال القذافي، نجل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي (جرى الافراج عنه لاحقا) من قبل مجموعة مسلحة، اثناء وصوله الى بيروت قادما من سورية، نسفا حالة التفاؤل التي انتشرت في الاوساط اللبنانية، واعادتا صيغة “الحريري فرنجية” الى مرتبة ادنى على سلم الاهتمامات اللبنانية، وبات اللبنانيون في حالة من القلق والحيرة، ويتساءلون اين سيكون التفجير المقبل، وكأن ليس لديهم ما يكفيهم من هذا القلق، خاصة بعد تفجير الضاحية الجنوبية الارهابي الاخير.
اللبنانيون من اكثر الشعوب العربية غراما بالاشاعات والتقويمات، وبين الاربعة ملايين لبناني هناك اكثر من ستة ملايين محلل سياسي، اضيف اليهم مليون محلل سوري لاجيء، وعشرات الآلاف من اليمنيين الحوثيين وانصار الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذين تزدحم بهم بعض فنادق العاصمة، والكل يدلو بدلوه، ويطرح نظرياته حول التطورات العالمية، ابتداء من اوكرانيا، ومرورا بالانتخابات الامريكية، وانتهاء باتفاقات سايكس بيكو جديدة، لتعديل القديمة، بعد انتهاء عمرها الافتراضي، ومرور مئة عام بالتمام والكمال على تطبيقها بعد الحرب العالمية الاولى.
مصدر لبناني، اثق في دقة معلوماته، اكد لي امرين رئيسيين: الاول يقول بأن من يقبل بالسيد فرنجية سيقبل حتما بالعماد عون، والمسألة مسألة بضعة اشهر فقط، اذا كان هناك مناخا فعليا لتسوية الازمة الرئاسية اللبنانية، والثاني ان علينا الانتظار حتى آب (اغسطس) المقبل لنعرف ماذا سيحصل في المنطقة، انفجار وحربا اقليمية، او تسوية سياسية حقيقية تشمل جميع الملفات دفعة واحدة، وسألته بخبث عن اي الاحتمالين يرجح؟ فصمت ولم يجب، ولكنني احسست انه يرجح الاحتمال الاول، اي الانفجار العسكري الكبير، دون ان يقول ذلك صراحة.
***
التحذير الامريكي الرسمي للامريكيين بمغادرة لبنان فورا، يؤكد ايضا احتمال الانفجار القادم، وتلكؤ السيد نبيه بري في قبول الدعوة السعودية لزيارة الرياض التي حملها اليه السفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري تصب في محصلة التشاؤم نفسه، وافلاس معظم مؤسسات السيد الحريري الاعلامية والاقتصادية، والعجز عن تسديد رواتب العاملين فيها لاشهر، يحمل معاني كثيرة لبنانيا وسعوديا.
مع كل ما تقدم ما زالت مطاعم لبنان ومقاهيه تستقبل الزبائن، والطائرات اللبنانية القادمة من مختلف انحاء المعمورة تفرغ جوفها من الزائرين الكثر، وتلمح بين الحين والآخر دشداشة خليجية هنا، وشماغ احمر هناك، والبلاد تسير بدون رئيس، وبمجلس وزراء انتقالي مؤقت، افضل مما لو كان فيها رئيس فعلا، ولا احد يملك اجابة حول السر الذي يفسر ذلك، وان كان الاحتمال الابرز هو عبقرية الشعب اللبناني، وقدرته الفائقة على التعايش مع مكوناته، وكل الظروف الاخرى، ومع ذلك يظل السؤال الابرز الذي يطرحه عليك اللبنانيون، جميع اللبنانيين هو: شو رأيك استاذ في هناك حل، وكيف شايف لنا الوضع؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى