المشمش .. فاكهة الصيام

سواليف – تجاوز حزيران ثلثه الأول، واتشحت حبّاتُ المِشمِش بالذهبي، فقُرص الشمس وحزيران «طبَّاخُ المِشمِش» قد التهبا. ذاتُها الحسناءُ بعد حول من الغياب تعود لتتصدرَ المشهدَ، فقد إكتنزت بطعّ عسلي ولون ذهبي ورائحة مستكاوية. وأمست مدرجاً ونبعُ حلاوة لطيور الدويري والحسون. ويتسلق أغصانها شباب وشيبان يجمعون ثمارها، وتحلقت حولها فتيات وسيدات يجمعن ما تيسر من خيراتها؛ ويبقى غُصنها الثائر على الحديقة متمرداً، يمتشق خلف أسوارها ليكون مقصداً وسبيلاً لعابرين.
إنها كنز الذهب في عيني أبن الرومي فوصفها، قائلا:-
قشر من الذهب المصفى حشوه
شهد لذيذ طعمه للجاني
وكأنما الافلاك من طرب بنا
نثرت كواكبها على الأغصان
وهو ذات الأمر الذي تخيله ابن وكيع، فقال:
بدا مـشـمـشُ الأشـجـار يذكـو شـهـابـه
على خُضرِ أغصانٍ من الـري مُـيدِ
حكى وحكت أشجاره في اخضرارها
جلاجـل تـبــرٍ فـــي قـــبـــابِ زبـــرجـــدِ
ومن الموروث الثقافي الشعبي وخاصة في بلاد الكنانة قول «في المشمش» كناية عن صعوبة نيل أمر ما، أما في موروثنا الأردني وبلاد الشام عموماً قول «جمعة مشمشية»، للتعبير عن حلاولة أمر ما وقِصَرِ عُمره، ومحاولة تحقيق مكاسب كبيرة في فترة قصيرة.
ويعشق المشمش النمو في مناخات عجلون والسلط والفحيص وماحص، بل وشقت بعض الأصناف طريقها نحو زراعتها في المفرق في زراعات مكثفة. إلا أن عشق المشمش الأول هو للمناطق المتمتعة بأجواء حوض البحر المتوسط وشبه الجافة منها.
ومن أدوات شد أواصِر الود بين الجيران والخلان توزيع ثمارها،  فهي «جمعة مشمشية» قصيرة، وإنتاج الأشجار غزير. كما تفننت ربات البيوت بصنع المربى الأكثر شيوعاً من ثماره، فيجمعن ثماره ويغسلنها ويجففنها جيداً وينزعن النوى، ويصنعن القطر من السكر ومن بعض عصير الليمون. وتتباين أشكال مربى المشمش، فبعضه يُصنع من أنصاف الحبات أو من هريس الثمر، كما تعمد نساء أخريات إلى تجفيف الثمار بعد نزع النوى منها لتكون رفيقة الزبيب والبطم والقريش في كوانين الشتاء.
أما القمر الدين، فحدث ولا حرج، فهو حلوى رمضان وعصيرها، وبخاصة ذاك المصنع منزليا بالعسل، فيُجمع المشمش ويغُسل ويجُفف، وتُزال نواته ليُغمرَ بعدها في الماء، ويتركُ حتى يغلي جيداً، ثم يُهرس المزيج ليبرد قليلاً ليعاد بعدها إلى النار مرة أخرى. ويضاف لكل كيلوغرام من الهريس عصيرة ليمونة، ونصف كيلوغرام من السكر أثناء تسخينه على النار. وبعدما يبرد قليلا يضاف إليه ربع كيلوغرام من العسل الطبيعي وعصير ليمونة ثانية، ويُحرك المزيج جيداً، ويُترك لفترة قليلة. بعد ذلك، يسكب على لواح خشبي مدهُن جيداً بزيت الزيتون، ويُترك في مكان جيد التهوية وبعيد عن الغبار وأشعة الشمس المباشرة. يصبح القمر الدين جاهزاً بعد يومين إلى ثلاثة أيام لليغلف بعدها برقائق من البلاستيك الغذائي والمدهون بشيء من زيت الزيتون.
أما شراب قمر الدين الرمضاني فيُصنعُ بوضع قطع صغيرة من قمر الدين في ماء دافيء لنحو ساعة، يوضع بعدها على النار لبضع دقائق، ويحلى بالعسل، ويعطر بماء الزهر، ويضرب بالخلاط لدقائق. وبعد تبريده يصبح جازها، ويقدم مع قطع الثلج ليطفى ضنك العطشى.
والمشمش فاكهة الصيام الأولى عندما يصادف رمضان فصل الصيف. فهي تزود الجسم بالطاقة والأملاح والمعادن والفيتامينات. وثمر المشمش غني بالفيتامينات والألياف والبوتاسيوم ما يجعله فاكهة القلب الأولى. وهو علاج فعال لارتفاع ضغط الدم، ويحافظ على مستويات الكوليسترول في الدم. ويساند تناول المشمش ومنتجاته الجسم تَشكُل هيموجلوبين الدم، ويسهم في حماية الجسم من تكون الخلايا السرطانية، وبخاصةخصوصا سرطان الرئة والدم والجلد لغناه بمضادات الأكسدة. ويوصف عصير المشمش لتعويض الأملاح المفقودة عن طريق التعرّق بسبب الحمى أو بذل المجهود الجسدي، وذلك لغناه بالمعادن والفيتامينات. وهو يوصف للأمراض الجلدية والأكزيما. وألياف المشمش علاج لحالات الإمساك وعسر الهضم. ومن خفايا المشمش أن كهنة الفراعنة كانوا يستخلصون السم من بذوره، حيث كان يعاقب من يفشي أسرار المعبد بتناول جرعة قاتلة منه.
ولزيت المشمش استعمالات وفوائد جمة؛ فهو خفيف وذو رائحة محببة، يستخدم لتدليك العضلات للاسترخاء، ويحافظ على يناعة البشرة عند تدليكها به، ويحارب الشيخوخة وتجاعيد الوجه، وهو مرطب طبيعي للشفاه، ويدخل في العديد من المستحضرات التجميلية وللتخلص من الهالات السوداء وحب الشباب.
ويَميد القلب لسماع قول الشاعر بن حيان القيرواني في وصف المشمش حين قال:
ومشمـش مـا بـدا يومـاً لـذي بـصـرٍ
إلا وأصبح بين العجبِ والعجبِ
كأنَّ مــخـــبـــره وصـــفـــاً ومـــنـــظـــره
شهـدٌ تـكـنـفـهُ قـشـرٌ مـن الـذهـبِ

الراي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى