
#المسيحيون في #المشرق ( #بلاد_الشام): جذورٌ راسخة وهويةٌ لا تُمحى
المهندس محمود “محمد خير” عبيد
في قلب المشرق، حيث تلاقت الثقافات وتداخلت الأديان، لا يمكن أن نفهم الحاضر دون العودة إلى عمق التاريخ. ففي ظل الأصوات المتعصبة التي تنادي بالإقصاء، وفي ظل محاولات التهميش التي تطال مكونات أصيلة من نسيج هذا المشرق المبارك، يتعين علينا أن نتأمل في ماضي هذه الأرض لا كحدث تاريخي محض، بل كمرآة تعكس واقعنا اليوم. لا بد أن نعود إلى التاريخ، ليس لنتحسر على ما مضى، بل لنفهم الحاضر ونصونه من أي تشويه قد يطال هويته.
عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب القدس، لم يكن وحده من حمل روح التسامح، بل وجد أمامه قلوبًا مفتوحة وأذرعًا ممدودة من رهبان كنيسة القيامة وأهل القدس المسيحيين. استقبلوه بوقار ومحبة، لا بخوف ولا تهيّب، بل بإيمان مشترك بالقيمة الإنسانية وحرمة الأماكن المقدسة. كانوا يعلمون أن هذا القائد لم يأتِ ليُهين، بل ليصون، ولم يأتِ فاتحًا مستبدًا، بل أمينًا على عهد بين الأديان. الرهبان الذين خرجوا لاستقباله لم يكونوا غرباء عن روح الأرض التي جمعت بين أنبياء الله وكتبه، بل كانوا أمناء على تراث روحي عميق، وممثلين لحكمة دينية عرفت كيف تفتح قلبها للحوار لا للصراع. وبذلك، سُطّرت واحدة من أروع صفحات العلاقات الإسلامية المسيحية في التاريخ، حيث ساد التفاهم واندحر التعصب.
ولم تكن تلك اللحظة استثناءً، بل كانت جزءًا من روحٍ عميقة تحكمت في التفاعل بين الإسلام والمسيحية. فالنبي محمد ﷺ نفسه، الذي عاش مع أهل الكتاب بسلام، كان قد تزوج ماريا القبطية، المسيحية المصرية، التي ظلت على دينها وكانت أم ولده إبراهيم. لم يُكرِهها على الإسلام، ولم يُقصها، بل أحبها وكرّمها، في دلالة واضحة على روح التسامح التي تمثل جوهر دعوته. فالمسلمون لم يأتوا لفرض دينهم بالقوة، بل ليدعوا إلى التسامح والاحترام المتبادل.
أما المسيحيون في المشرق وبلاد الشام، فقد كانوا جزءًا أصيلاً من هذه الأرض منذ العصور الأولى. لم ولن يكونوا يومًا ضيوفًا على هذه الأرض، بل هم أبناءها وأصلها. هم من شاركوا في بناء هذه الحضارة، في تمازج عميق مع التاريخ. فعلى سبيل المثال، كان عرب مؤتة من قبائل النصارى قد انتصروا للمسلمين في معركة مؤتة، ووقفوا معهم ضد الروم ليس من باب الدافع الديني، بل وفاءً للعهد وانتصارًا للحق.
اللغات والهوية الثقافية في المشرق كانت انعكاسًا لهذا التمازج. لقد كانت اللغة الآرامية، ومن تفرعاتها السريانية، هي اللغة السائدة في المشرق، وقد استخدمها المسيحيون في طقوسهم وكتاباتهم اللاهوتية. لا يزال هذا التراث حياً في بعض الكنائس حتى اليوم، ويحمل بين طياته ذكريات عميقة عن تاريخ هذه الأرض. المسيحيون السريان، الآشوريون، والكلدان قد ساهموا في الحفاظ على هذا التراث اللغوي والروحي العريق، مما أضاف بُعدًا هامًا للهوية الثقافية للمشرق.
وفيما قبل الفتح الإسلامي، كانت بلاد الشام والعراق جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، حيث كانت المسيحية هي الديانة السائدة. كانت الكنائس قائمة، والأديرة منتشرة، والمدارس اللاهوتية نشطة، خصوصًا في مناطق مثل الرها، نصيبين، وقنسري. في تلك الحقبة، شهدت هذه الأرض تفاعلًا خصبًا بين الفلسفة اليونانية والفكر المسيحي المشرقي، مما أسهم في إثراء الثقافة الإنسانية، وأدى إلى نقل المعارف إلى اللغة العربية في العصور العباسية، حيث لعب المسيحيون دورًا حيويًا في نهضة العلوم والفلسفة.
وبعد الفتح الإسلامي، أصبحت بلاد الشام جزءًا من الدولة الإسلامية. ورغم انتمائهم إلى النظام الجديد، حافظ المسيحيون على درجة من الاستقلالية الدينية والثقافية بموجب نظام “الذمة”، الذي منحهم حماية وحرية دينية. ومع مرور الوقت، استمرت مساهماتهم الفاعلة في المجالات المختلفة مثل الطب، الترجمة، والعلوم، حيث لعبوا دورًا محوريًا في نهضة الحضارة الإسلامية المبكرة. لا يمكن لأي شخص عاقل أن يتجاهل الدور الكبير الذي قام به المسيحيون في تطوير الفكر والعلم في العصر الذهبي للإسلام.
وفي هذه الحقبة التاريخية، لا يقتصر الحديث عن المسيحيين على الماضي فحسب، بل يتعداه إلى الحاضر. المسيحية في الشام جزءٌ لا يتجزأ من الثقافة المشتركة في هذه المنطقة. هؤلاء المسيحيون كانوا دائمًا جزءًا حيويًا من هذه الأرض، وكانوا في قلب التفاعلات الثقافية والدينية. لقد كانوا وما زالوا يساهمون في بناء هذا المجتمع بروح التعايش والتسامح.
إن من يسعى اليوم لتهميشهم أو تهديدهم، إنما يتجاهل حقيقة تاريخية لا يمكن محوها. فالمسيحية ليست دخيلة على هذه الأرض، بل هي أحد أعمدتها الراسخة. إن هذه الأرض، التي شهدت لحظات عظيمة من التعايش بين الأديان والثقافات، لا يمكن أن تكتمل هويتها دون احتضان جميع أبنائها، من مسلمين ومسيحيين وغيرهم.
إن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو طيف من الذكريات التي تسهم في تشكيل الحاضر. لذا، فإن واجبنا أن نقرأ هذا التاريخ بعين منصفة، بعين تبحث عن الحقيقة، لا بعين متعصبة. وإذا أردنا أن نعيش في هذا المشرق، فلا بد أن نؤمن بأن هذا المكان لا يكون مشرِقًا إلا بتعدديته، وبكل أبنائه، الذين كتبوا معًا قصة حضارة عظيمة، لا تفرّقها العقائد، بل تجمعها العدالة والانتماء.
إن أرض الشام، هذه الأرض المباركة، كانت حية قبل الإسلام بقرون. كانت تعرف أن هناك من يعبد الله، ويقيم الصلاة. ربما لم يكن يعبدوه حسب الشريعة الإسلامية، لكنهم كانوا يؤمنون بالمسيح الذي هو من أنبياء أولي العزم، والذي كان ركنًا من أركان الإيمان عند المسلمين.
فكيف يمكن لأحد أن ينكر أن دمشق كانت مركزًا مسيحيًا عظيمًا؟ وأن أنطاكية كانت مقرًا لبطريركيات الشرق؟ وأن كنيسة القيامة في القدس كانت مقصد الحجاج قبل أن توجد حتى الكعبة كقبلة للمسلمين؟ كيف يمكن أن يتجاهلوا الرهبان والعلماء والمترجمين واللاهوتيين الذين أسسوا مدارس وأديرة، وعيشوا حياة الزهد والتقوى، وعبدوا الله حين كان الشرك يملأ جزيرة العرب؟
المسيحيون في المشرق لم يكونوا، ولن يكونوا أبدًا، رعايا أو غرباء على هذه الأرض. بل هم أهلها، هم من زرعوا فيها جذورهم قبل أن يُولد الخلفاء أنفسهم. عندما اعتنق أهل الحيرة، والرها، والأنباط، والسريان، والموارنة، والكلدان المسيحية، لم يكونوا غرباء، بل كانوا جزءًا حيًا من المشرق، من أهل هذه الأرض التي شهدت نزول الأديان وجمعت بين الناس على تفاوت عقائدهم.
لذا، حين نذكر الأمويين، يجب أن نذكرهم كمرحلة من مراحل متعددة مرت على بلاد الشام، لم تتجاوز تسعين عامًا من سبعة آلاف عام من تاريخ هذه الأرض العريقة. فمن الخطأ الفادح أن نلغي دور الرومان والبيزنطيين والآراميين والأنباط والغساسنة من هذا التاريخ. هل نُسقط كل الحضارات والديانات التي نشأت في هذه الأرض؟ هل نلغي أن المسيحيين هم من ترجموا كتب الطب والفلسفة والنجوم والرياضيات، وأسّسوا مدارس علمية في وقت كان فيه البعض يطوف حول الأصنام؟
بلاد الشام كانت دائمًا بوتقة انصهرت فيها حضارات عدة. ومن دون المسيحيين، لا يمكن الحديث عن الشام بشكل كامل. الإسلام نفسه لم يكن لينهض في المشرق لولا جهود المسيحيين في الترجمة، والتعليم، والطب، والفلسفة. فمن الحتمي إذًا أن نحافظ على هذا الإرث، لأن ما يجعل هذه الأرض مُشعّة ليس فقط الأديان التي سادت، بل التفاعلات الإنسانية والدينية التي أزهرت فيها على مر العصور.
رسالة أخيرة لأولئك الذين يسعون إلى تهميش المسيحيين و ترهيبهم في بلاد الشام وسوريا, مهما حاولتم، ومهما كانت محاولاتكم للتشويه والتزوير، فإنكم لن تستطيعوا أن تنتزعوا التاريخ عن هذه الأرض المباركة. المسيحيون في بلاد الشام ليسوا مجرد عابرين في تاريخها، بل هم جزء لا يتجزأ من جذور هذه الأرض العميقة. لا يمكن لأي محاولات للتفرقة أن تمحو وجودهم التاريخي، أو تلغي دورهم الريادي في بناء الحضارة. هؤلاء هم من أسسوا الكنائس والأديرة، هم من حافظوا على التراث اللغوي والعلمي، هم من حملوا مشعل العلم والفكر في أوقات كانت فيها هذه الأرض تلتقي فيها الأديان والثقافات.
إنهم أبناء الشرق الحقيقي، الذين عاشوا مع أنبيائه وأديانه قبل وبعد الإسلام، وشاركوا في حروبها ومعاركها، وبنوا حضارتها جنبًا إلى جنب مع إخوانهم من المسلمين. كانوا معًا في معركة مؤتة، وقادوا دروب العلم والفلسفة، وكانوا جزءًا من أولى لحظات التعايش بين الأديان.
إن المسيحية في الشام هي جزء من هوية هذه الأرض، جزء من كل زاوية وحجر فيها. ليس من حق أحد أن يحاول محو هذا التاريخ أو تغييره. المسيحيون في بلاد الشام وسوريا هم جزء أصيل من هذا النسيج، وهم أبطال الحوار والتسامح الذين ساهموا في توجيه المنطقة نحو التقدم والازدهار.
فلا يمكن لأحد أن يزعم أن التاريخ يبدأ مع لحظة معينة أو مع دين واحد فقط. التاريخ لا يُكتب بالأيدي المتعصبة، بل بالأيدي التي تبني وتقيم وتوحد. وفي هذه الأرض التي نحبها جميعًا، تظل المسيحية جزءًا راسخًا لا يُمحى، جزءًا من الهوية المشرقية التي لا يمكن لأي محاولات محو أن تُغفلها.
إن هذا التاريخ ليس مجرد ذكرى نعيشها في الكتب، بل هو حقيقة حية في كل زاوية، وفي كل حجر، وفي كل قصة تحكيها هذه الأرض المباركة. وعليه، فلن ينجح أي من يسعى لتهميش أو إنكار هذه الحقيقة في سعيه، لأن المسيحيين في بلاد الشام وسوريا هم جزء أصيل من هذا الوجود، ومن تاريخنا المشترك الذي لن يتغير مهما مرت الأيام.
المسيحيون هم جزء من هذا النسيج، ومهما حاولتم تغييره، سيظل تاريخهم راسخًا في أعماق هذه الأرض.